من اللوحة الى الفتوغرافيا سريالية الفن في أسلوب الأمريكي Will Cloughley.. تجاوزت تفجير بيروت

with No Comments

 إن الواقع الصادم الذي يتسرّب كأحداث عبر الصور والشاشات ليغمر التفاصيل اليومية، استطاع أن يحفر ثقوبه في الذاكرة ويدمج ألوانه معها بشكل متفاعل، فتأثيره على الفنان له وقع خاص وتصورات ماورائية مختلفة، وهذا ما تركه تفجير مرفأ بيروت في البصريات التي تعاملت معه في وقت مختلف من هذا الواقع المعاصر المعقّد والمتصادم مع أفكار الموت والدمار والفناء التي تأتي من كل الاتجاهات لهذا العالم الذي يعيش عزلته الاجبارية.  

غير أن فكرة تجاوز الصور والتقاطها سرياليا عبر الخيال والتعبير المسبق عن الواقع وحمل الاحداث قبل وقوعها بسنوات جعل من  كل هذه التعقيدات التي رأيناها في الواقع حقيقة حقيقية  حوّلت الصورة والفوتوغرافيا التي تناقلتها وكالات الاخبار عن تفجير بيروت نحو تصوّرات التشكيلي ويل كلوغلي لتكون  خدوش وعلامات بصرية لم تتحمّلها الصور الواقعية لتسقطها عمدا داخل المساحة البصرية لمحمل اللوحة لتحتل مكانها فيها وتتكاثف وتتجادل وتتفاعل وتندفع بغضب لوني وشّحها بالخراب والفوضى ولتتكوّن بسريالية لم تصمد أمام الصورة، فتجرّدت وتمرّدت على المسطّح والشكل وحملت مفهومها لينتشل ما تبقى من المكان في عمق المساحات. 

ان استباقية ويليام كلوغلي التي حاكت ببصريات استشرافية هول ما يحدث اليوم في بيروت لم يكن مجرد محاكاة أو تفاعل انساني ولكن تعايش فكري وتخاطر فلسفي وبصري مع مكان حمل معه الكثير وكان له بمثابة البوابة التي فتحت له منافذ الشرق وصوره التي التقطها وصاغ منها فنونه البصرية ومنها فنون الكتاب منذ سنوات تكوينه الفني الاولى حتى رحيله سنة 2019 وهو يرمم مفاهيمه بسريالية لم يكن يعلم انه من خلالها يخلد أحداثا حصلت فكان يتسابق مع اللحظة الحالمة في الواقع المعزول من الذاكرة. 

حمل كلوغلي وهو يبني بصرياته مع الفكرة السريالية منطق الترميم الحسي وهو يبنيه على التعايش مع الظروف والأحداث والواقع وفكرة االتناقضات الحسية بين الصخب والهدوء وما تحمله تلك التناقضات انسانيا من حيث المكان والذاكرة الحنين والانتماء، فبأسلوبه الملون الذي حمّله الكثير من التصوّرات ليندمج مع الرؤى البصرية وليستخرج من عمق التفوق على الواقع علامات يميّز بها الامكنة جماليا مفاهيمه لاستدراج  لغتها  السردية إلى مرايا مؤثّرة قادرة على تخليد الفكرة من لحظة التفجير أو توثيقها لتكون قادرة على أن تنتشل الذاكرة من صمتها أو تنبش فيها حواسها المكبوتة مع الصدمات وهو التصوّر القادر على استنطاق المفهوم نحو المنطق البصري الفوضوي في تفاعليات سرمدية مرتبة وانسيابية موثقة وهي تتقمص الصورة وتصارع  نفور الحدث منها  فتجرّدها  من أشكالها أو تأثيرها  لتتوافق مع مفاهيمه. 

تجرّد ويل كلوغلي في تصوراته البصرية من انبهاره الأول بالشرق وترك الفوضى تتسرّب الى صوره وهو يحاول لملمة ما تبقى من انتصارات للأمل في دواخل الذاكرة من الهندسة والمعمار ليخلق توازناته المرئية التي حفّزته على التوافق أكثر داخل الصورة حتى تحمل مفاهيمها ولا تكون مجرّد نقل بل استشرافا تحكم عبر الزمن في   تلك الفوتوغرافيا وهو ما جعله يبدو في لوحاته التي نفذها قبل سبع سنوات من تاريخ التفجير متحكما في المشاهد بأبعادها وهو يوظّف الفراغ مع اللون وكانه شاهد عيان  في حركتها وعمقها وأبعادها عند الاشتغال على عناصر المكان واختلالات التوازن فيه عند التفجير وبعده، فقد سيّر كلوغلي المفاهيم بالأحاسيس التي كانت منتشرة في فوضى تكاثفت لتطوّع المشهد وتتناغم معه ومع الفكرة ومدراتها التجريبية وكانه يستقرىء التاريخ ليستشرف منه الوقائع ويوثقها. 

فكلوغلي تمكّن من أن يجيد التحكم في السطح والمساحة وترتيبها حسب توافقات الفراغ فيها ودرجاته المتعمّقة في زواياه وتراكماته وهو ما وافق فيه بين الملامح والاحاسيس من جهة والانفعالات والمفاهيم والتعبير عنها من ناحية أخرى لتبدو الأولى محاكية للثانية وكانها من زمن واحد أو من تأثر عكسي بالصورة الحقيقية قبل السريالية وهو ما ميز الأعمال بدهشة  وغرائبية. 

استطاعت الصور التي نفّذها ويل كلوغلي أن تنتشل المشهد الصادم وتحرّره من منطقه السوداوي الذي استدرجه نحو التعبير أكثر عن جوانب التفاعل الحسي والانفعالي بحيوية أكبر كان لها مداها التوافقي مع الخيال الفني الذي طوّع له المكان والذاكرة من خلال اللون الذي اخترق تلك المساحات الحارة والداكنة والترابية في تمازجات تعاصفت وتراكمت وتصادمت، حيث أن العبثية كانت معها في لقطات موظّفة لسرد التفاصيل الدقيقة بعلامات مختلفة، فاعتماده على التصوير المفاهيمي تشكيليا خلق محاورة فوتوغرافية لعبت فيها الفلسفة والخيال أدوارا مختلفة لتعبر انسانيا للوصول إلى تكوين لقطات وحالات تجسد الفكرة التي تكتب تفاصيلها من مواقفها البصرية وتوجهها نحو ألوانها وأضوائها وتفاعلاتها الحسية مع الأشكال الهندسية التي من الصعب أن تفسر بعبثية لأنها لقطات موظفة في بناء فوضى الواقع وفوضى الفكرة والمفهوم المتحرر من قيود الشكل. 

فقد طرح تجربة استباقية على القيم التي تفجّرت مع التفجير نفسه وتكاملت في الرسم لتنعكس معها الفوتوغرافيا بكثير من العمق حيث عبرت المشاهد من خلالها  بتقنيات انعكست بالفن استباقا  إبداعا وابتكارا، فالرسم لم يكن نقلا  عاديا من فوتوغرافيا الى اسكاتش تصويري للأمكنة  والاحداث ولكنه اقتحام الإحساس والحالة والنفسية ليركز على أبعادها فيحوّلها إلى عمق تجاوز النقل نحو التشريح ومنها تحوّل إلى تجربة التعبير  الواقعي في الصورة نفسها التي  أصبحت تبحث عن مفاهيمها من اللوحات  للعمل على البحث عن تفاصيلها الخفية التعبيرية التي تخضع لفكرة صامتة تحتاج الاستنطاق. 

لقد بدت الاعمال حديثة  ومعبرة وهي تتجادل مع التقنية ومع المزج والدمج بين فكرة السبق الفني ومحاكاة  الصورة الفوتوغرافية للرسم  بما اعتمد فيه كلوغلي على الضوء والحبر في تركيب التفاعلات بين الأبعاد من خلال الأبيض والأسود وتعيمق اللون الذي عبّر عنه بالفوضى الحسية تلك التي تعمق الرؤى والانفعالات التي تتدرج عبر الاحاسيس نحو الألوان والخطوط لملأ المساحات والفراغات. 

ان مزج الرؤى البصرية في هذه المقارنة حمل فكرة الصورة والرسم التي سكنت مخيلة الفنان منذ بداياته فصاغها كاسلوب سريالي ربما مكنه من استباق ذاته في الخيال البصري  ليحول أعماله الى حدث وواقع. 

*الأعمال المرفقة:  

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية  

Farhat Art Museum Collections 

https://willcloughley.wordpress.com

Leave a Reply