مصطفى الحلاج وفانيسا ستاوفورد.. جدلية التاريخ والأسطورة خصوصية العلامة في التجربة السريالية

with No Comments

مصطفى الحلاج وفانيسا ستاوفورد Mustafa Al Hallaj Vanessa Stafford

جدلية التاريخ والأسطورة خصوصية العلامة في التجربة السريالية

للأساطير التاريخية حضورها المحفّز للخيال في التعبير عموما وفي الفن التشكيلي بالخصوص، وتوظيفها يحتاج لموقف وفكرة وتصوّر له أبعاده الإنسانية الدافقة بالمعاني والمفاهيم ولعل هذا التصور المبالغ في حكمته وطرافته وتطرّفه وتناقضاته الملحمية هو الذي استفز العديد من التجارب التشكيلية ومن بينها تجربة التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاج والتشكيلية الأمريكية فانيسا ستاوفورد فرغم اختلافهما الثقافي في التعبير الفني والموقف الجمالي إلا أن اعتماد التاريخ والأسطورة وتوظيفها سرياليا في فلسفتهما البصرية حمل أبعادا سيميائية مكثّفة تستثير القراءة والفهم والبحث في المقاصد ودلالات التعبير ومدى توافقها مع الواقع.

*فانيسا ستاوفورد
تشترك الأسطورة في تصوراتها التشكيلية سواء التي اختارها الحلاج واتبّع أثرها وتأثيرها أو التي عبّرت بها فانيسا في تقصي واقع الشرق، في إلباس أفق التشكيل وخياله ملاحم التاريخ بهزائمها وانتصاراتها بقتلاها وأبطالها برموز الحرب وتناقضات الخلود في فكرة البناء والهدم في الوعي الطاغي وفي لاوعي الأسطورة وحكمة الحلم الهارب من ثنايا الموت وضباب السراب وعتمة الظلال كما صوّر الحلاج أعمالهه مثقلة بالعتمة في الأبعاد الضوئية وطغيان الأبيض والأسود والرمادية المدمج في الحالات مثل جدارية “ارتجالات الحياة” أو كما عبّرت فانيسا رمزيا بشخصياتها وعناصرها وألوانها الزاهية والمثيرة لعين التلقي في مجموعة أعمالها المختلفة.

*مصطفى الحلاج
فهما يشتركان في الأسلوب السريالي وفي محاكاة الحضارة بالواقع الراهن بمعاناة الأرض من مغتصبيها ومن اللاعدالة وهي تدمج التلاشي مع البقاء، فقد عبّرا بالرمز في الصورة في المشاهد في الطبيعة في مدى الخيال في شخصيات الحلاج الضخمة والخرافية بأجسادها في توظيف الحيوان الذي طغى دوره في خدمة المعنى في الصراع والأسطورة وفي الملحمة، الخيول الغريبة ذات الأجنحة أو التي تتخذ شكل الانسان أو الأجسام الضخمة لبشر والصغيرة لآخرين وكأنها تعكس صورة بقاء الأسطورة رغم الغزو ومحاولات التشويه كما صوّرتها فانيسا والطيور المختلفة الشخوص وتيجانها الحدائق وتفاصيلها، القطط والأحصنة والأفاعي كما في تجربة الحلاج مع الفلكلور المختلف في خصوبة الأنثى في تفاصيلها في زينتها.


فقد توغّل الحلاج في الترميز وفي أسطرة المشاهد وفي توجيه فكرته الفنية أبعد في الرؤى وأعمق في نبش الذاكرة البشرية حيث المفهوم يروّض التاريخ ويستدرجه أكثر في لاوعي الهاجس الخارق للواقع الكابوسي.
فهو لم يُغرق أعماله في الزوايا الداكنة رغم حضورها اللوني والضوئي وطغيانها الكئيب على الفكرة كملحمة ومأساة مستفزة للعاطفة الذهنية في تلقيها للحياة الباقية والوطن البعيد في صراعات الأسطورة، ولكنه غاب في تفاصيل الأبعاد فملئ الفراغات بالنور والسطوع في أشكال شخصياته المتعبة من غبار تاريخها الذي تحملها في مسارها ومسيرتها.

وظّف الحلاج التأويلات والأسئلة وفلسفة الوجود التي أوقفته أمام ذاكرته كباحث أركيولوجي في جغرافيا النسيان لمحابته بالأثر بالصورة التي لا تتلاشى رغم أحزانها ومآسيها وترحالها وهو ما حمّلها الموازين الثقيلة في المعنى والرمز ودلالة الكيان.
تفاعلت شخوص الحلاج مع التاريخ والأثر والخرافة وكأنها قادمة منه من غباره حاملة قناديل التراب وأثر الأسطورة التي تفجّرت من أرض كنعان وحملت توهجها الطافح بالأمل، فعبّر عن أحلامها وهواجسها ألبسها الخرافة وغرابة الميثيولوجيا بتحوّلها ضوئيا وبصريا وسردها نفسيا ليخلصها من تشرد الواقع وشتاته وليثبت في واقعه أن التاريخ يعرف تماما القادمين منه والمنتمين حقيقة له ولهويّته.

أما الفنانة فانيسا ستاوفورد فتبدأ من خيالها المشبع بحكايات الشرق بما ينتابها من أحاسيس وصور ورموز وعلامات لها تصوراتها التي خلقت مواقفها من الواقع منتشلة لاوعيها في تقديم التأويلات الوجودية من التاريخ ومن الحضارة من صراعها ومن أثرها فهي تستلهم صورها من الحضارة الفرعونية القديمة والبابلية والكنعانية وأساطير الشرق في حكايات ألف ليلة وليلة في صور القصص القادمة من الهند لتقدمها مفاهيميا بأسلوبها السريالي المبالغ في سخرياته اللامعقولة المتمازجة مع الحلم والخرافة وطرافة الصور اللامتوقّعة في الاحجام والأشكال في الصور والألوان التي تعلق بذهنها وتسطع.

فهي تثير الحركة في كائناتها للتابع الواقع بطرافة عجيبة المعاني، تسخر من ضحالة ذلك الواقع وسطحية السياسة بنواياها اللاانسانية التي تعيق الحضارة على نسج أساطيرها.
فعفوية ألوانها وبساطة رؤاها تشدّ عين المتلقي إلى تلك المشاهد بثيماتها التاريخية ومرجعياتها المتداخلة بين الخطوط والأحجام والاشكال والألوان.

ورغم أن أسلوبها المتدافع بصريا والكثيف في إثارة الدهشة يلتف على العناصر في تكرار يحاول التوازن والتماسك إلا أنها تبحث في تناقضات الحالات والحواس عن التماس الصدامي بين الشرق والغرب كما بين الخير والشر كتشابه كثيرا مع كان مدفوعا بالحروب بالقوة والاستحواذ، فالألوان الحارة والباردة والترابية وتدرجاتها المركبة تحدث ديناميكية وحركة عفوية.

لقد ساعدت السريالية بمبالغات الحضور الغرائبي وانسجامها مع الخيال في رمز الأسطورة في التجربتين حيث ساهمت في تثبيت العلامة وإثبات الفكرة والمفهوم وبالتالي كانت غرابة الصور لا تقلّ عن سرد الخرافة وتجسيدها في ملاحم الفراغ التشكيلي الذي وظّف واقع الصراع الصعب إلى صخب كامل الرؤى فالحلاج اختار مسارات الإنسانية وعذابات التهجير وملامسة الأرض ومسيرة التضحيات في ضخامة الشكل في سلب الملامح وتشكيلها بما يوحي ببؤسها وفي نفس لوقت صناعة الأمل منه والصعود عبره.
أما في تجربة فانيسا فقد صاغت السريالية حلما ساخرا ومجنونا بنته على تناقضات الوجود وتفاعلات الحياة بين مجتمعين وثقافتين عالمين فرض فيه الأقوى منطقه وتصدى فيه الأضعف بالتاريخ والأسطورة والحكايات والخيالات المنثورة منها.

*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections

Leave a Reply