التصورات التجريبية في الفن التعبيري المعاصر بينJean-Michel Basquiat و Eddie Colla

with No Comments

فن الشارع Street Art

التصورات التجريبية في الفن التعبيري المعاصر بينJean-Michel Basquiat  و Eddie Colla

الابتعاد عن التقليد الفني والتمرد على القواعد الكلاسيكية والحديثة والتحليق بها بعيدا عن سرب المألوف هي ميزة الفنون المعاصرة وفنون ما بعد الحداثة، وهي الرؤى التي أثارت التمرد بالفكرة والمفهوم والتصور وماورائية الحضور، حيث يعتبر فن الشارع والفن التعبيري المعاصر واحدا من أبرز هذه الفنون التي أثارت النقد والانتقاد ولكنها في نفس الوقت أثرت وأثارت عدّة تجارب فنية فخضعت كل واحدة منها لتطويراتها المتنوعة حسب كل فكر وكل مفهوم وكل موقف، فكلما كان التصوّر كان الغموض والجدل مثل تجربة بانكسي وفنه ومواقفه وكما كانت تجربة الأمريكي جون ميشال باسكيات الذي بات أيقونة فن الشارع والفنون المتمرّدة بكل تصوراتها وكائناتها وتوافقات الحسية والمادية وقد أثّر باسكيات على الأجيال الجديدة التي اعتبرت الفن الشارعي والتعبيرية المعاصرة مساحة حرّة ذات رموز مطوّرة استطاعت أن تكثّف الصورة وتنطلق بالفكرة بجماليات عكست قبح الواقع ومبالغاته اللامتوقعة وكسرت قواعد الجمال وابتكرت لها جماليات حديثة ونذكر هنا تجربة الأمريكي إيدي كولا.

*إيدي كولا

وبالحديث تجربة باسكيات فهي تعود لفترة الثمانينات حين بلغت أوج تميّزها وشغب حضورها في الساحة الفنية التشكيلية فلم يتوقع أحد عالميته وحضوره المميز فكرة وأسلوبا خاصة بعد رحيله المبكر (27 سنة) قدّم أعمالا فاقت ألف لوحة مختلفة جريئة وناضجة بفوضاها المجردة بواقع سوداوي قلق عكس تفاصيل يومية لحياة الأمريكي يعاني نظرة دونية مختلفة مهمشة.

*باسكيات

أثرت تجربة باسكيات المعاصرة على الكثيرين باعتباره أسّس مسارا منحرفا خرج بالفن من الصالونات إلى الشارع ومن حدود الفكرة نظريا إلى فضاء أوسع مارس فيه شغفه باللون والموسيقى والعنف والسوداوية والأمل والسخرية واللامبالاة فوضى مقصودة تمردت بسوداوية حرّة الانطلاق تمرّدت على واقع الفن الكلاسيكي أولا ثم الواقع بأحداثه.

*باسكيات

رغم قوة تمرّده وصخب شخوصه وتماهيه الأدائي اعتبر باسكيات فنانا هشا أمام قلق المجتمع والعالم وصخبه وهو ما جعله “الطفل المتمرد” الذي سكن لوحاته بهوسه الموسيقي بالجاز والهيب هوب والبوب وبحياة التسكع والادمان وبالمجد الذي آمن به  وهو يمارس حريته الفنية في الموسيقى والرسم والتعبير والأداء المفاهيمي المعاصر أو الجرافيتي الشارعي ليكون منافسا لكبار الرسامين بتعبيراته الفنية المبتكرة والمعبرة عن مواقفه الصاخبة والمتمردة على سياسة بلاده وعلاقاته الاجتماعية، يصنّف النقاد أعمال باسكيات بوصفها بالتعبيرية الحديثة في توجهها المعاصر فنيا لكنه يرى نفسه المتمرد والساذج الذي يختفي وراء شخوصه المتنوعة فيعيش معها حالاتها وهي تمارس أدوار البطولة بعيدا عن مجتمع يهمش الآخر فينقل فيها بعنف انفعالاته القلقة، فشخوصه التي يرسمها أبطالا لحكاياته تعبر عن حالاته وهذيانه الواقعي في تأثره الذي يدمج هوسه  بالحكايات والأساطير القديمة وكل الخرافات المقدسة الشعبية التي تخرج منها الأرواح والأشخاص والملائكة والشياطين والأنبياء والقصص الساخرة والأمثال الشعبية التي تبني خياله ليكوّن شخصيات خاصة كسر بها القاعدة الفنية الكلاسيكية بثقة توجه أسلوبه من موقفه الاجتماعي الحاد التعبير والجريء في سخطه على الواقع المليء بالتمييز والعنصرية والتهميش والتمرد، يقف أمام كل استنقاص واستئصال لحضور الانسان فيغيبه وبالتالي يساهم في تغييبه عن وعيه واهتمامه فيندمج في الحالة بين التغييبين الفردي والاجتماعي وهو ما يفسر حالات الإدمان التي كان يعيشها، فهو يقدم اطروحاته المؤلمة بسبب لونه وعرقه إذ صاغ حياة البؤس والقلق والتوتر والتسكع وعبّر عنها في شخوصه التي بدت مشوّهة ويائسة مستهترة بواقع يسوده النفاق والهراء السياسي الموجه والمغلف بديمقراطية تخلق العنف النفسي والزيف في التعامل المتوازن مع البشر.

*إيدي كولا

وهذا التصوّر صاغه أيضا الفنان إيدي كولا في تجربة حملت مواقف باسكيات من المجتمع من الواقع ومن التعايش واختلاف الجذور في وطن واحد ومن التمييز العرقي والجنسي ما جعل منجزه الفني يحكي بصريا موقفه من السياسة والنفسيات الوجودية والعنف وفلسفة قبول الاخر فقد بدأ من التصوير الفوتوغرافي بعوالمه التي رشّحته لدخول عالم الدعاية والاشهار ومنها إلى الفن الشارعي والجرافيتي  ليخلق له بصمة خاصة تعتمد على الصورة التي تعبّر داخل الفضاء المفتوح عن الواقع المروّع الذي يعيشه المجتمع والعنف المخزن في السلوك المتطرّف بعواطفه الفوضوية.

فأعمال إيدي تجلب الانتباه إليها أولا لأنها تحمل موقفا يعكس مشهدا صادما في ألوانه الداكنة وعلاماته الغامضة وهي تحوّل الحدث الواقعي إلى صور فنية بواقعية مفرطة في الإثارة، فالأعمال التي اخترقت الجدران وحوّلت المدن إلى كتب مفتوحة على المعاناة الاجتماعية والنفسية والصدامات التي تتشكل في شخوصه وملامحها في العنف وتثبيت الحركة والتحريك الانفعالي المقصود في الثبات الذي يعطي المتلقي الجواب عن استفساراته وتساؤلاته ومخاوفه وتداخله الحسي والذهني.ط

*جانب من أحد معارض إيدي كولا

يعتمد إيدي على علامات مادية في الصورة وهي الأقنعة والقفازات كدلالات تشير إلى الخوف والخطر وضرورة الحذر والاحتياط من بيئة ملوثة وطبيعة مغتصبة وهواء خانق بالتلوث والأوبئة حيث يركبها على ملامح المودلات كأجساد مشتتة في هول الواقع ومنها يخترق الفضاءات بتعتيم لوني يخلو من سمات الحيوية والحياة، فالاكتمال بين الانسان والطبيعة انهار بفجوات انفعالية وأمراض نفسية وتمييز اجتماعي وانقطاع كامل للتواصل بين الأفراد وبين الطبيعة.

رغم رفض النقاد لتجربة اللاجمال في الأعمال الفنية في تجربة باسكيات إلا أنه استطاع أن يحدث فارقا بفلسفته البصرية وتأثيرا تسرّب نحو تجربة إيدي كولا لينثر شغفه المتمرد بفن الشارع منطلقا برحلة مع الصورة بأدق تفاصيلها التسويقية والدعائية ليحوّلها إلى رؤية واقعية مفرطة حيث حوّل مهارته الخداعية من خلال الفكرة والتجارة والتسويق إلى علامات رمزية فنية مستغلا مهارته وتقنيته لتكوين فكرة مروعة  ومشوّهة كالواقع بكل احتمالاته القاسية غيرت في ذهن المتلقي وحواسه قوالب الجمال الفني وقيمه والنظر إليه كواقع لا كسلعة ومن هنا تحرّر هو نفسه كفنان من سجن الاستهلاك وسطحية فكرة الجمال في الفن فأصبح يصور بحثا عن الجوهر عن العمق بكل افرازاته من عنف ومعاناة وتطرف مبالغ كاشفا كل المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والوجودية.

إن الفوضوية التي قد تبدو في مثل هذه التجارب لا تنفي الجوانب التعبيرية ولا تلغي العمق فهي تعكس مرحلتها وتميّز تطويرات المجتمع والواقع بتفاصيله الحادة وفوضى الوجود وفلسفة التعايش إنها منطق يفرضه التصور القبيح لعالم مشوه ينشر الفوضى بدوره ويستدرج للتمرد.

إن في تجربة إيدي كولا واقعية مفرطة في نقدها وتمرّدها وجدلها وعنفها فرغم السواد والحدة وتطرف النقد إلا أنه لم يستثن العامل الفني من توقعات المرحلة ومن مميزاتها العامة فالمنجز نتاج عصره وفنون الشارع هي نتاج كل ما يميز الفرد والمجموعة والكيان المدني والتعامل الواقعي مع الأفراد وهو ما قدّره باسكيات واستمر فيه رغم مشواره الفني القصير الا أنه ابتكر له وسيلة أثرت في الأجيال بعده فنقاط التشابه جلية التركيز على الكائنات والفكرة الشخوص والملامح العلاقات والألوان الخطوط التشويه السواد الصورة الفتوغرافية التي يتلاعب بتطويرها رسما ايدي كولا هي ابتكار يتشابه فيه مع باسكيات في التصوير غير أنه يغرق في ملامح جديدة يتوارى خلفها أما ايدي فينتشلها من الواقع ويروي حكاياتها ويتعاطف معها بحدة وعنف وحساسية واندماج وتقمص.

*الاعمال المرفقة:

أعمال إيدي كولا

مجموعة متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

أعمال باسكيات

http://www.jean-michel-basquiat.net

Leave a Reply