التجريد المعاصر انعكاسات حسية لتفاصيل حيوية
بشرى بن فاطمة
التجليات التي تنبعث من أعماله تبدو غريبة وهي تحاكي الواقع بتفاصيلها اللامعقولة التي تتجاوز الأشكال والأحجام المادية لتعطي الفكرة والألوان مساحات مختلفة، تتبلور معا وهي تحدّد مستوى التكامل الفني بينها.
هي حدود تقنية لأسلوب حر في اندفاعه ومنطلق في بحثه داخل الفضاء عن منافذ تعيد تركيز الفراغ حسب مقتضيات التشكلات التي يريدها، وحتى لا تنفصل في انبعاثاتها عن خبرته الاحترافية في صياغة فكرته بكل ما تحتويه من عبث وجودي وتحكم رهيب في اللون والبقع التي تعيد تكوين تلطيخاته الصارخة من أحجامها بكل ما فيها من نفس يتحمّل الاستنطاق المحكي بصريا على مسطح اللوحة.
هي رحلة يدعونا إليها التشكيلي والمصمّم الأمريكي بيل شيفر الفنان الذي اختار البحث عن التناسق اللوني في الأسلوب التجريدي المعاصر واختار أن يخوض تحاليله البصرية بحرية خوّلت له التحرك يمينا يسارا أفقيا وعموديا ليعيد استجماع كتله من فضائها وترتيب حكاياتها داخل الفراغ.
فقد جمع بين الفكرة والمادة في أشكال مختلفة فكان التشكيلي ومصمم المجوهرات استطاع أن يدمج بين الصقل النحتي والتشكيلي الذي مكّنه من أن يقوم بصياغة المنجز الفني بالحركة في الجمود، فبعث حيوية في المادة واستنطق الحضور اللوني في مختلف زواياه وانبعاثاته حتى يدعو الأشكال الى اكتشاف مساراتها نقطة بعد نقطة وخطا بعد خط بحكمة باحث منطق في عوالمه.
منح شيفر التفاصيل التشكيلية التي صاغها خبرة التناغم بين الأبعاد في احتوائها فهو لا يُنكر راحته وهو يعمّق وجود اللونين الأبيض والأسود ولكنه لا يُخفي عشقه الطاغي للألوان بكل انبعاثات الأمل والحياة والتنقل بين المساحات بتقنيات تعيد له امتزاجه مع الطبيعة واحتكاكه مع مساراتها البهية من خلال الاحتكاك اللوني بتلقائية.
تبدو أعمال شيفر مثل أحجية تسترسل في تراتبها وفوضاها بين عمق وسطحية تثير المتلقي ليغوص فيها ويتفاعل وكأنه ينقّب عن ذاته في ثنايا كل لون وحركة، صعودا وانحناء في توافق مثير للتناقضات بين الترنح والثبات وبين الصمود والتلاشي حسب كل حالة وكل تصوّر رمزي يستنطق به حالاته.
يعكس العمل الفني الذي يقدّمه شيفر بحثا مستمرا عن طريق تجديد التعبير بالحركة التوظيفية بين المساحة والفرشاة حيث يتحكّم في اللون ويعبث بتلقائية بمداه القائم على المسطّح فمن خلال الأشكال والألوان يفرض التقنية ويتفاعل معها بوساطة طفولية تدعم اختياره لها مع استخدام تنوع بصري ورموز مُختلفة تعيد تفكيك الإيماءات التي يوظّفها لتأكيد أفكاره بعيدا عن التعقيد واقترابا من التشارك الحر بين كل العناصر التشكيلية التي يتخذها ليصمّم أعماله.
فالعمل الفني الذي يقدّمه شيفر يبدو في تفاعلاته التشكيلية مثل جوهرة مصقولة شظاياها تنثر تفاعلات بين الضوء واللون برمزية الإشعاع، فتعيد تثبيت فكرة الوجود والتكامل معه، فهو يحمل فلسفة بصرية يقترحها على عناصره التكوينية ويستجمع فيها نضجه المُلون في الخطوط والنقاط والانحناءات المشكّلة بين العناصر وهي تسلك طريقها في تصاعد وفي هبوط حتى يُكمل تنصيب عناصر لوحته بشكل مُتفرّد يجمع بين التجريد والتلقائية والتبقيع التاشيزم.
لا يترك بيل شيفر أيّ تفصيل تكويني في لغته الحسية والذهنية داخل العمل إلا ويعيد تكوينها لتتناسب أكثر في أحجامها مع طبيعة فكرته وامتثال تجاوبه المترنح بين الواقع والخيال بشكل تجريدي لا يتضارب في انبعاثه بين المادة والشكل خاصة وأنه ينساق أبعد في تراكمه بين الحضور والاندثار من خلال الأحجام التي يركّزها حسب رغبته في حضورها وإبرازها تكاملا مع التوافقات المتداخلة بينها.
يحمل التأمل في الأعمال التي يقدّمها شيفر إلى انبثاق الكثير من الأفكار والأخيلة التي تتجاوز رمزياته اللونية ومقاصدها ودلالتها فهي تعيد التكامل الطفولي بين المُتلقي والعمل وبينه وبين الفنان ليخوض في البحث عن الأسئلة التي تعيده في كل مرة إلى البحث عن المعنى داخل التقنيات ومحاولة فهمها من خلال الأنسجة والخطوط من خلال البقع والألوان وهنا يكتشف المتلقي ذاته أمام تماس بصري وحسي في نفس الوقت يشتغل على إعادة الانتصار للذات في وجودها وتكامل مواقفها من ذلك الوجود بحثا عن حقيقة المعنى في رمزية اللون وانبعاثه مجددا.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply