بشرى بن فاطمة
من عمق الانتماء ينبثق الإصرار ومن روح التواصل الحر مع الأرض تستحيل المشاهد إلى رؤى وألوان وخطوط وتفاعلات وبين كل ذلك وذاك تتحمل التشكيلية اللبنانية عبير عربيد جوانب الكثافة الجمالية المعتّقة حتى تلمع بمنجزها وترتقي به أبعد في عمق المفهومية التي تعبر عن عنها بروح أنثى أسطورية تعانق طائر الفينيق وتحطّم جمود الأساطير المعلّبة في صناديق التاريخ لتعيد تكوين رمزياتها بين التجريب والتجريد وبين الابتكار التعبيري في ألوانها المتناغمة معا داخل مساحاتها العابرة لجدليات البقاء والفناء وتناقضات الموجود والمنشود، من أجل تثبيت حضورها التشكيلي ومواقفها من الواقع ومن كل تفاصيلها اللبنانية الغارقة في جذورها الجنوبية الثائرة بكل ما لديها من حسيات عالية وعابرة للأمكنة والأزمنة قادرة على تطويعها وتمتينها وصياغتها./
تسرد عبير عربيد في لوحاتها ومنجزها الفني، باختلاف المساحة التي تختارها والفراغ الذي تروّضه، الأنثى الكيان والانسان، وهي تحاور ذاتها العنيدة وتكتسب روحها المتمرّد من واقعها وهو يستدرج طاقتها التي لا تهدأ، فهي تحاور شخوصها وعلاماتها وتتجادل معها كما تعيد تفكيك كل ما خزّنته من مشاهد حاولت بها أن تقدّم صورا انتشلتها من ذاكرتها من معايشاتها من قصصها ومن واقعها، فقد صنعت من ضعفها أمام الواقع قوة طوّعت أسلوبها الفني ولامست تصوراتها بين كل سرد ومشهد وباعتماد الخامات المتنوعة والتقنيات لامست معها تجاذبات التعبير والثبات والاستمرار والأداء.
في جدالها مع ألوانها وعتابها لسواد واقعها تفجّر حضورا إنسانيا عميقا ومغامرا تحاول به أن تعيد تكوينات الأساطير ورغبتها في الجدال مع الملاحم بين كرّ فرّ تنتشر بأكثر مغامرة وتمرّد على طبيعة الأشياء.
اختارت عربيد ألوانها من عمق انتمائها وردّدت معها إشراقة الشمس من موطنها لتكون أكثر أملا وتستعيد لهيبها من رمادها وهي تستنطق من رتابة روتين الصورة عمق انعكاسها الماورائي في ترددات اندماجها، فهي التي فجّرت ألوانها بفوضى ممتعة وإنسانية وشكّلت أطيافها بحسيات فائضة المشاعر.
تصوّرات التجريب عند عبير عربيد تحاور الأداء الحركي المفعم بحيويتها في امتلاك اللحظات والقبض عليها والاندماج معها، ما يخلق بينها وبين العمل تفاعلات شعورية تمكّنت من أن تتفاعل بين أسلوبين من التعبيرية إلى الرمزية ومنه إلى التجريد من خلال مسكها للفرشاة وحركتها التلوينية وانفعالها معها وهي تراقص التراكيب المندمجة بين مزيج الألوان والمساحة بحرية ترشح معها برومنسية أعادت معها تشكيل هويتها وانتمائها وإيمانها بقضايا وجودها وحضور وطنها لبنان الذي يتجسّد في لغة المدن ومزيج الأزرق والأخضر وصراعه مع الألوان الحارة بين الأصفر والأحمر في تفكيك رمزية الحياة والبحث عن الهدوء.
في هندسة خطوطها تكسب توافقاتها المتناغمة انحناء يوازي حضور الشكل بقوة التمازج مع خطوطها الدائرية وتدفقها الانسيابي نحو العمق والامتلاء بين التموجات الكثيفة والملتوية جسّدت معه رموزها وفق رؤاها الباحثة عن السلام فهي ابنة الجنوب الثائر المتمرّد مع عمق الصخب الناضج من الرضوخ إلى الانتصار يستعيد معه لبنان أمثولة القوة والتحوّل من الموت إلى الحياة.
وهذه الصراعات هي انتصار تشكيلي تردّده عربيد دائما وهي تحتفي بالأمكنة والمدن والأوطان لتبتعد عن التناقضات.
إن أسلوب عربيد تشكيلي ثبّت بصمتها الحرة بالتخلّص من القيود الأكاديمية بطموحها البصري وخيالها المندفع ما خلق في أعمالها محاكاة ذاتية حملت الموازين الثقيلة للواقع ودفعت المفهوم الذي أثبت عندها أن الصور التي تعايشها وتشكّلها هي التي تعيد اندماجها لذاتها وتفكّك تصورا فنيا خاصا بها وكأنها تستدرج المُتلقي إلى الإقرار بأن الفن ملك الباحثين عن عوالم الأمل رغم كل الألم ومن خلال ذلك أثبتت كينونتها الحسية والذهنية في موازنة مفاهيمية استطاعت استنطاق العلامات والخطوط والألوان.
تراوغ عربيد في تجلياتها التشكيلية الفراغ وهي تستثيره أعمق في البحث والانسياب مع اللون بفلسفتها البصرية التي تبالغ في بثّ الحركة الأكثر شغبا وتمرّدا وشغفا لاكتساب روح البحث والاستدراج الداخلي للألوان حتى تكتسب ذاتها بحرية أكثر تحرّرا وانعتاقا رغم تلك الكثافة.
فهي تعتمد تجليات مختلفة في توظيف السكون والحركة والنقش الداخلي أو الحروف المتباعدة وسط كلمات مقروءة أو فوضوية أحيانا بين انبلاج المعنى وشتاته أو الصورة و الإشارة للأزمنة والأمكنة بنمنمة أو رقش بتعبيرية أو حروفية تنفعل وتتفاعل بين التزيين الحسي والمعنوي للغة اللون وهو يتداخل ويتوافق مع كل حركة محكية أو معنى يستدرج العلامة بمهارة وجرأة تحتج وتتمرّد وتنفلت لتعبّر عن الموقف والانتماء بين الرفض والتصور.
توظّف عربيد خامات مختلفة حسب ابتكارها ومزاجها الفني المتكامل مع المفهوم والفكرة المستنطقة فبين الحبر والزيت والأكريليك والألوان المائية توزّع مواقفها وتستفز أفكارها وتدفعها للتشكل اللوني أو الانغماس في تصورات الأبعاد وحركة الظلال والنور بين السطوع والبرود أو الانتماء للنور والتراب كما توظّف تمرّدها الفني نحو ابتكار خامات جديدة والانتصار لروح التجديد التقني المعاصرة ومنها توظيف الفوتوغرافيا والتجريد المعاصر والعفوي الذي يساعدها على الاختصار والتكامل والثرثرة اللونية القادرة على تكرار الفكرة المحتجة مع المحافظة على المسافة الفاصلة بين التصور والانتماء وبين العلامة والدلالة وهو ما بنى شخصيتها الفنية وتوليفاتها الحسية المتكاملة مع التشكّلات الخاصة بها في عناصر اللوحة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply