بشرى بن فاطمة
يحملنا التوجّه الفني الذي يستدرجنا إليه الفنان التشكيلي السوري بسيم الريّس إلى عوالم غريبة وتناقضات تروّض لغة اللون ومواقف الابداع وجرأة التواصل بالفن مع الواقع وتستثير نحوها مجازات الرمز لتغوص بنا في تجريب احترافي وتصور عالمي الأبعاد المفهومية وتساؤلات كثيرا ما بحث فيها وهو يحاور اللون والأمكنة ويرتّب الأزمنة على إيقاع الأحداث ويتفاعل معها في تقدير محتوى التناغم بين ما هو واقعي مبالغ وبين ما هو تعبيري مندفع، فهو يحاول استثارة الخيال نحو اتباع الأمل الباقي في روح التمازج الوجودي مع الذات.
لا يُصغي الريّس لغير القلب ولا تتبع ألوانه فيها إلا أحاسيس الذاكرة الطفولية التي ترشح بكل غرائبيات الخيال الموظّفة لخدمة الاحتمالات الواثقة من قدرة الأمل على اختراق بؤر السواد في الواقع الراهن فهي حسب موقفه التعبيري التي تتسّع لنور الفكرة والمفهوم والرؤية التشكيلية وتتمرّد على اتساع المساحة والمسافة لتجد له مكانا آمنا للحب بكل احتمالاتها وكل اندفاعاتها الواثقة من صياغاتها العابرة للملل والتعقيد نحو البساطة المخيالية والروح التعبيرية الساكنة في صخب صمتها بكل تناقضاتها.
فلا يمكن للمتلقي وهو يستقبل لوحات بسيم الريّس وأعماله باختلاف أحجامها ومستويات التعبير فيها والأساليب وتجريبياتها إلا أن ينصاع إلى دهشة الصورة بين سريالية المشاهد وعبثية التجريد وغرابة التعبيرية في توظيف الشخوص واستحضارها من عوالمها وفضاءاتها الغارقة في حضارات ترشح بعمقها في ثبات الأرض والانتماء تترنّم بتوازنات ابتكارية مع اللون وقدرته الحيوية على تحريك جمود الأشخاص واستنطاق حواسها.
فهو يعيد في رؤيته البصرية تشكيل ذاكرته التي تُمرّغ الألم الطاغي بالفقد بالحنين وبالصراع بين الموجود والمنشود إلى أن يُعيد مع الواقع تشكيل مشاهداتنا على نبض آخر أكثر عقلانية ووعيا وأكثر تمرّدا ومحاكاة للصورة وامتزاجها مع الواقع.
ثابتة هي القيم الإنسانية التي يعبّر عن تفاصيلها العميقة والساذجة وهي ترتّب مواعيدها على توقيت الحروب وأحداث الموت والخراب فدون إلغاء لإنسانيتها يترجل بأبعادها الجمالية الطافحة بالأمل رغم غبار التراكمات الحسية لواقع سوداوي الأفق يحاول أن يدمجه مع الألوان الحارة النابضة من عمق داكن في سواد العمق بكل حرفية وجرأة في اختياراته اللونية التي تكاد تتراءى عبثية لولا مسحة العقلانية التي تبدو حكيمة في ترتيب التحكم في المساحة ودور الشخوص التي يرتّب حركتها ويختار أدوارها الحيوية في محاكاة ملاحم الوجود.
حيث يحاول صياغتها بالتأني والاستمرار بالرمزية والتماهي بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية وتلك هي اللغة التي استمال فيها لون الأخيلة وعبق الذاكرة فاستنطق كيانه الفني أعمق في ثناياها المُتشبّثة بالرموز الأسطورية وعلاماتها البصرية التي تحيل على الانتماء والتشبّث بهوية الأرض والإنسانية.
تبدو اللوحة التي يقدّمها الريّس متفرّدة ومختلفة تماما كما حرفه المندفع نحو التجديد فهو متمرّد بطبعه على كل القوالب الأكاديمية ولا يفوّت فرصة الغوص في التجربة بكل ما يختزنه من مشاعر وأفكار ومواقف من ذاته من واقعه من محيطه وهويته وانتمائه، فهو لا يملُّ البحث عن شخوصه التي لا تشبه إلا حكاياته البصرية وتستحيل إلى أكثر من ذلك من عمق وصور لها بلاغتها المدهشة فكأنه يعيد تشكيل المجاز في اللغة ليكتب نصه في شكل لوحة فالملامح والشخوص التي تتراءى للمتلقي ليست بتلك الدرجة من الإبهار بين حضورها وظلالها ولكنه أعطاها فرصة الحركة وتملّك الأمكنة في الحضور والظهور والابهار واستقدمها من التاريخ لتعيد مشاهداتها وتستثير مشاعرها، لذلك ونحن نتمعّن منجزه الفني نستنشق عبق التاريخ وروح الحضارة التي بدت في تلك الشخوص التي تحاكي لغة الصورة في جدران الأماكن الأثرية حيث أعطاها دورا في الواقع لتعبر بكل حكاياتها المتعبة والمضطربة والمتمرّدة التي تحاول القفز من حواجزها فتنتصر على الفراغ وتبتكر ملاجئ لها تعابيرها الحرة ودرجات تحملها لحساسيات الكائنات التي يصوّرها بين تناقضات البؤس والمتعة العبث والترتيب الجمال والقبح الانتصار والهزيمة، لتندمج التعبيرية مع تفاصيله الواقعية وجرأته السريالية في المنجز.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply