بشرى بن فاطمة
تثير التجربة الفنية المتنوعة التي خاضها التشكيلي البولندي «سيغموند مازور» الكثير من التساؤلات عند الغوص فيها أو البحث في تفاصيلها الرمزية والبصرية الفنية والنفسية، حيث تبعث على التأمل بين مدى تأثّر الفنان الأكاديمي بالمدارس الفنية العالمية ونقطة تحوّله الذاتية ليصنع حقيقته الفنية وبصمته الجمالية. هذه البصمة التي انحرفت به من مسار التقليد إلى مساره الخاص والمُتفرّد فبين التجوّل والصراع والتحوّل والانفعال، استطاع أن يستجمع من واقعه ومعايشاته وصدماته وصداماته ووجوده وتنوع الأمكنة والأزمنة التي تداخلت بين ذاكرته وأفكارهه وأحاسيسه، مسارا بصريا له وحده وفكرا وفلسفة تشبهه، أسّست لفنّه وخلّدت فنّه في الشرق والغرب، خاصة مع عناده الذي بالغ في جعله يحتفظ بمنجز الفني لفترة طويلة لم تدخله عالم سوق الفن لبيع لوحاته خوفا على فنه من التأثر بمنطق السوق أو أن تخترق تلك القواعد التجارية خصوصياته الفنية، فكل تلك المبادئ جعلته يفضّل الاحتفاظ بأعماله أكثر من بيعها ولكن ذلك لم يستمرّ طويلا لأن الموهبة والصياغة البصرية للفكرة والابتكار الجمالي لفت إليه الأنظار فاستطاعت أعماله أن تنفلت نحو المتلقي وجامعي اللوحات فتكتمل بذلك التأريخ لاسمه في تاريخ الفن.
ولد سيغموند مازور في مدينة فودزينوف في بولندا سنة 1922، في عام 1940 انتقل مع والدته وشقيقتيه إلى سيبيريا حيث عاش فيها سنتين استدعي بعدها إلى الخدمة العسكرية مع الجيش البولندي في الشرق الأوسط وهناك لم ينتظر كثيرا ليبدأ في خوض عوالم الجمال والتعرف على خصوصية الطبيعة والأمكنة والزخارف التي خلقت بينه وبين الشرق محاورات بصرية جمالية ملوّنة دفعته لتعلّم الرسم في بيروت في أكاديمية الفنون الجميلة، تأكّدت بعدها موهبته وبحثه المستمر عن بصمته الخاصة حيث استمر معه البحث والتجريب لمدة ستين عاما من سنة 1945 إلى سنة 2001 كانت هذه السنوات كفيلة بأن يكون له اسمه اللامع في سماء الفنون الحديثة والمعاصرة، وكان له إنتاج غزير ومتنوع جمع بين الرسم والطباعة وتركيب القطع الجاهزة والنحت والنسيج.
تأثر مازور بالعديد من المدارس الفنية الأوروبية والأمريكية فخاض تجريبه في التكعيبية والوحشية وأسّس ألوانه البصرية انطلاقا من فلسفته الخاصة التي تأثّر فيها بالمدرسة التعبيرية الألمانية التي من خلالها شكّل رؤاه وتماثلاته التشكيلية التي تماهى معها وبلور فيها أفكاره عن الانسان والوجود والحروب والمعاناة والتناقضات المتراكمة نفسيا سياسيا اجتماعيا وثقافيا.
فتلك الرؤى هي التي جمعته بتوافقات فنية مختلفة خلقت فيه رغبة التواصل والتحاور بصريا مع عديد الفنانين في لبنان وفنانين أوروبيين وبالخصوص البولنديين، فأثمرت محاوراته عدة رؤى تجريبية جمعت بينه وبين وطنه والعالم استعاد بها هويّته وانتماءه وتداخل مع ذلك البحث عن الانتماء ثقافيا.
في بداية الخمسينات هاجر مازور إلى كندا واستقر هناك مع زوجته ليحصل على الجنسية الكندية سنة 1955 ، قدّم مازور في كندا عروضا مختلفة حيث اكتشف هناك عوالم جديدة وهوسا بأعماله عند عرضها، اكتشف من خلال ذلك التنقّل قيمة أعماله وضرورة اندفاعها البصري نحو المتلقي، فاستعرض تجربته بأكثر حدّة وثقة وتوجيه وأسلوب ذاتي متمكّن مع تركيزه على خصوصية التنوع الذي تشبّع به في الشرق، غير أنه ركّز في تطوّره البصري والمفهومي على التصور التعبيري الذي جعله قادرا على تصوير معاناته وتنقلاته وهجرته وواقع الحرب العالمية التي زجّت فيها عائلته وتحوّله بين الشرق والغرب، فبقي وفيّا لخصوصيات التعبيرية الألمانية مع إضافة الكثير من حواسه ولمساته على الأفكار والألوان، حيث تميّزت أعماله بخلق عناصر الاستبطان النفسي الشديد وتحوير اللغة اللونية في تفاصيله المجرّدة الجريئة ونشر الأشكال المُشوّهة المسطّحة وهو ما أعلا من سيط أعماله ورؤاه في كندا وفي العالم الغربي من جديد.
وهنا اكتشف مازور مساره الأساسي وخلق لنفسه خصوصية الانطلاق في تثبيت وجوده في منافذ التعبيرية المعاصرة أو التعبيرية الجديدة وبالتالي شعرعند التجوّل بين عوالم شخوصه المشوّهة والعنيفة أنها تستوجب التكثيف اللوني والخطوط التي تنتزعها من فراغها فقام بابتكار منفذ ملوّن وظّف فيه النيون على تصاميمه بالتوازي مع الجرافيك، كما اعتمد البوب آرت كلغة بصرية لها حضورها الطاغي على التصوّرات البصرية المعاصرة.
إن قراءة أعمال سيغموند مازور برؤاه التعبيرية المعاصرة تُغرق المتلقي في البحث داخل الشخصية والنبش في عمقها النفسي الداخلي الذي مزج العنف بالجنس بالاضطراب بالقلق بالحيرة وكأنه يخووض حربا داخلية لا تختلف عن كل تلك الحروب التي شوّهت العالم ولكنه بين كل تلك التوافقات يقع في دوامة التناقض الوجودي الباحث عن الأمل في الإنسانية.
حمل مازور فلسفته البصرية من اللوحة إلى المنسوجة ومنها إلى المنحوتة فبسط أفكاره التعبيرية المعاصر ولامس التحدي الحقيقي للخامة فأسّس تقنياته الجديدة على مستوى التنفيذ والإنجاز خاصة عند النسج حيث اعتمد طريقة الحرفي في ترسيم النول اضطرّته إلى أن يصمّم نوله الخاص الذي سمح له بالنسج على سطح مائل بالطريقة التي جلس بها كتبة العصور الوسطى لإلقاء الضوء على مخطوطاتهم فبدل النسج بشكل أفق كان النسج مائلا وعموديا استطاع من خلاله تركيب الاعوجاج فأحدث فيه المعنى وألقى عليه الظلال وتلاعب بالصورة عند تنفيذ التصميم وهو الابتكار الذي استمر في تنفيذه حتى وفاته سنة 2001.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Leave a Reply