يحتاج التعرف على التجربة الفنية للتشكيلي الأمريكي Michael Diven (1943-2018) إلى الخيال الذي يتسّع لعمق الموقف البصري المندفع منه نحو الواقع ليصل إلى منافذ الإنسانية بتفاصيلها المتعلقة بالحياة.
ومايكل ديفين ليس مجرد فنان باحث عن تكنيك بصري معيّن قابل للتعايش المرحلي والتطوير والتواصل الفني معه، وإنما مجرّب اختص في دمج كل الأساليب الحديثة والمعاصرة والمبتكرة حتى تتماهى معا لتقترب من خياله وتطوّعه فنيا، فمن المفاهيمية إلى التجريد الهندسي والواقعية والتشخيصية، اعتمد ديفين على الوسائط المتعددة والدمج الفني وتقنية “الكاموفلاج” التمويه، حتى يبرهن لذاته أنه قادر على إيجاد عالمه المبني على الأحلام في لوحاته واستنطاقه بصريا ليكون أقرب من الفكرة القابلة لمواجهة الواقع وتحمل الموقف منه.
ولد مايكل ديفين في ولاية يوتا الامريكية درس فيها الثانوية ومنها اكتشف شغفه بالفن عندما ساعده أستاذه على صقل موهبته التي لم تكن خفية من حيث تعبيره بها وتقمص مواقفه من خلالها لينتقل إلى كاليفورنيا لدراسة الفنون أكاديميا حيث حصل على درجة ماجيستير في الفنون، اختار ديفين إلى جانب ممارسة الفن أن يدرّسه في العديد من كليات الفنون بمنطقة الساحل الغربي الأمريكي، وقد مكّنه ترحاله بين تلك المدن من كسب روح جديدة في البحث وخيال مختلف في سرد التصوّرات البصرية للنماذج البشرية في الولايات المتحدة الامريكية بحكاياتها التي تتصارع معا من أجل إثبات الذات والبقاء والاندماج، معطيا لخياله حرية الانتقال بعيدا في الرؤى والدمج المتباين بينها وبين الواقع وبين الواقع والموقف الإنساني. قدّم أعماله في قاعات عرض مختلفة بسان فرانسيسكو واقتنى متحف الفن الحديث ومتحف سياتل سنتر للفنون العديد من أعماله بمراحل تطويرها المختلفة وصفه نقاد الفن في تلك الفترة بالجريء ووصفوا فنه بالواسع والآسر والمستشرف والفنان الذي لا يعرف الحدود.
كان اندماج الخيال مع الحلم والماضي والذاكرة والصور والمشاهد بمثابة المفاتيح التي خلقت التصورات البصرية لدى مايكل ديفين، جعلت منه تشكيليا صانعا للأسلوب البصري النافذ من عمق الأيديولوجيا إلى تحوّلات الرؤية الفنية مع الموقف الإنساني المبني على آراء بصرية فنية من كل الأشياء المحيطة به، بتفاصيلها الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية.
حاول مايكل ديفين أن يستنطق ما وراء المشاهد دون أن يُحدث خللا فيها وهو ما جعله في مرحلة ما محترفا في صقل الذاكرة البصرية واحتوائها دون أن يثير الصورة فقد اعتمد تقنية الكاموفلاج الفني أو التمويه البصري لتلك الصور التي أثارها بشكل غيّر ملامحها البارزة بإثارتها مع اللون ضبابيا حتى تنتشر مع الحجم والشكل وتتماثل معه أبعد وكأنها سراب يحاول الانفلات من الذكرى البعيدة في المشهد فلا هي واضحة بالشكل الذي يسمح للمتلقي بقراءتها ولا هي ضبابية بالشكل الذي يلغي منها التصور فقد خلق بينه وبين اللوحة رؤية بنيوية بعلامات قابلة للتأويل والتفسير بتعدّد الرؤى.
فقد عبّر مايكل ديفين بهذه التقنية عن نظرته للطبيعة بكل تفاصيلها الموسمية محدثا حركة تعبيريا قابلة لتطويع الأشكال والملامح وإخفاءها وتوظيفها بشكل قادر على استثارة الخيال وفتح منافذ للبحث الداخلي والغوص البصري داخل اللوحة لاستمالة المشاعر البصرية ذهنيا دون الوقوع في خدعة البداهة البصرية، فكأنه يختبر حركة العين ومدى تبصرها الداخلي تفسيرا للشكل واستدراجا لمعانيه.
فقد استطاع مايكل ديفين أن يخلق الترابط الجذري التعبيري بين الفني والواقعي من جهة والإنساني والجمالي من جهة أخرى دون أن يقع في المباشرة المبالغة أو في التفسير الذي قد يُفقد الموقف معناه العميق وبالتالي اختار الكلمات والأرقام والأشكال الهندسية ووظّفها لتشكّل علامة بين ذاته وخياله في الوجود وكأنه يقوم بتركيب فكرته في الوقت الذي يرسمها فيه معتمدا أسلوب الأداء ليصل إلى مدى الرسم فالفعل البصري الذي يقدمه يجتاح الخيال الرقمي نحو اللوحة لتبدو وكأنها تصميم شاشة.
في أحد المقابلات الصحفية تحدث مايكل ديفين عن فنه بقوله “إن مصدر إلهامي الفني لا يشبه أي مصدر أكاديمي يمكن أن نتعلمه ونتشابه فيه إنه يأتي من الأحلام والذكريات والقصص والأحداث اليومية والاهتمامات السياسية، يأتي من الطبيعة والبيئة إن فني يخضع لسلطتي في تطويع الخيال وسرد الذاكرة التي تلتزم بكل ما أقوم به من استفزاز فكري وروحي رغم تنوع المضمون فإن التقنيات المستخدمة في الأعمال الفنية تشكل الخيط الذي يربط كل منجز أشكّله فالرموز هي انتقالات ومحادثات مع الماضي ومنافذ تعيدني إلى الذاكرة لأبحث من جديد عن واقع وحاضر ينمو به التصور المختلف للمستقبل وهو ما أشكله بالأرقام والكلمات في بعض الأجزاء من التصاميم واللوحات ليكون الرقم شاهدا ومراقبا على حدث ما أو ضحية ناجية من مأساة حسب كل ما يختزل التصورات والمواقف.”
تبدو الصورة التي قدّمها مايكل ديفين معاصرة على مستواها التقني ولكنها في نفس الوقت تخضع للكثير من التوافق المتعاقد مع التعبيرية والواقعية والتشخيصية في اختلافات الطرح والرؤية والفكرة ومفاهيمها الماورائية فهو يفتح منافذ خياله على الذاكرة ليستدرجها إلى اللوحة فتنطبق الرؤى مع الخيال في حركة هندسية تحمل الملامح بشكل ضبابي غير واضح متعلق بتراكيب الألوان التي تحشره إما في زوايا الشكل أو في المركز لدرجة يبدو فيها غريبا على ذاته باحثا عنها وسط ضجيج الواقع المتكئ على مشاريع العولمة والاستهلاك والصراعات المسلحة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply