يقع التعبير الإنساني على العلامات التي تعبّر عن الهوية وتفاصيل الحضور في الوطن والأرض والتي تصنف ضمن الموروث الشعبي أو الفلكلور ولأن الفن التشكيلي كغيره من الفنون الإنسانية يبحث في التفاصيل ويدقّق في الدلالات التعبيرية اعتمدها ليتحدّث جماليا عن الذات والآخر والانسان المبدأ والقضية، حيث وظّف تفاصيلها رموزا ذات معان وخلق لها دلالات عبّرت عنه وانسجمت في مساره التشكيلي لتصبح في حد ذاتها رؤية كاملة ذات صياغات تعكس وشم المكان وبصمة الفنان وهويته وليصبح توظيف الفلكلور بمثابة تدوين للذاكرة وخصوصية جمالية وحماية من الاندثار وحفاظ كامل عليها.
*عبد الحي المسلم
وقد تميّزت عدة حركات تشكيلية عربية بالمبالغة في توظيف التراث الشعبي والتعبير الصادح به لعدة أسباب تتعلق بمسائل وقضايا إنسانية، ونذكر من أبرز التجارب التي عبرت عن الذاكرة والتراث ورسختها في التجربة الفنية التشكيلية، التجربة الفلسطينية، تجربة شمال افريقيا، تجربة الخليج العربي والعراق هذه التجارب عالجت مسألة الهوية والثبات ومحاكاة الأرض والتاريخ كنوع من المقاومة المباشرة أو الثبات على الخصوصية التي بلورت الإنسانية التي تبحث عن كل تفاصيل الانتماء والبقاء.
*ليلى كبه
ولكل تجربة من هذه التجارب خصوصيتها التي عبّرت عن تفردها فعكست أسبابها وفق الواقع والأحداث والتاريخ ونهلت من التراث لتعبر عن ذاتها ولعل التجربة الفلسطينية تعتبر من أكثر التجارب ترسيخا لهذا الإيقاع التشكيلي البصري المتناغم مع قضيتها الجادة حيث وظف التشكيليون كل طاقتها كمخزون شعبي وكل موروثها لتدوين الذاكرة الجماعية حتى يحاكيها كمنجز ويسرد تاريخها وعمقها فخلقت رمزيات حوّلتها بصريا إلى لغة عالمية كانت بمثابة بصمة خالدة ويقول التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور “لقد حاز التراث الشعبي على أهمية خاصة في الفن التشكيلي الفلسطيني للوظيفة التي اكتسبها منذ بداية الستينات.. فالتراث يعبّر عن هوية الوطن وجماله وأصالة شعبه..إذ لعب التراث دورا مهما في تأكيد هوية الفلسطيني”.
*عبد الرحمن المزين
وطبيعة الفلسطيني المختلفة بين من هو في الوطن المقسّم ومن هو في الشتات بين من يوظفه كسرد واقعي وبين من يوظفه كحنين وذاكرة يحاول أن يحميها من الاندثار من ذاته الملطخة بالأحداث خلق التنوع الذي امتزج بدوره مع المدارس المنتقاة للتعبير أو المبتكرة ولعل أبرز التشكيليين الذين خاضوا في تجربة الفلكلور الشعبي ونقل المحكي الى البصري نذكر إسماعيل شموط وسليمان منصور مصطفى الحلاج عبد الحي مسلم عبد الرحمان المزين ولكل منهم رؤية خاصة في التوافق البصري للحكاية وفي الحنين وفي الحضور حيث عكست الصور بتلاوين الفرح والطقوس الكاملة التي تجمع الشعبي مع التاريخي السردي الحكائي المراوغ لمرارة الواقع وصدمة الحدث فشموط أبرز اليومي والمعيش والواقع التأثيري بكل مستويات الحياة الفلسطينية البسيطة القروية والمدنية وانطلق من تفاصيله ليحمّله تعاليم الوطن وطقوس الفرح والبقاء والتواصل والانتماء فكوّن مدرسة ذات رموز ألهمت جيل التشكيليين الفلسطينيين لتحويل الرمز التراثي إلى سيمياء بصرية خلقت المعنى الكامن في المقاومة الثابتة والحق من خلال تجسيد صورة المرأة الفلكلور الثوب التطريز الاحتفال العمارة والزخرف الطبيعة والحياة وهو ما بدا في أعمال عبد الحي المسلم التي ظهرت فيها التمازجات التراثية بامتياز في الخامة وفي الشخوص والعلامات والملامح حيث اشتغل على الحفر على الخشب والنحت الحفري على الحديد والبرونز ثنائي الأبعاد باعتماد النقوش التي صاغت احتفالات وعكست قصص شعبية في اللباس والحضور والعادات والطقوس.
*أحمد ناباز
نجد أيضا تجربة فنون المعتقلات وهنا نقع على تجربة زهدي العدوي ومحمد الركوعي التي تركزت على الحنين والحرية والصورة العالقة في ثنايا الذاكرة بملامح الشخوص وبحضور الذاكرة في الموروث العالق والراسخ في ثنايا التذكر حيث تظهر فلسطين بكامل تاريخها وتراثها كنوع من التحدي للمعتقل والسجان الذي لا يمكن له أن يسجن ذاكرة متحررة من كل ضيق معتم.
*سليمان منصور
أما الحلاج فقد وظّف صورة الرمز في التراث الحضاري والتاريخ الكنعاني بترسباته الأسطورية في العلامة الحفرية التي طبعت أعماله بالخرافة والأيقونات الرمزية الدلالية في الطبيعة الفلسطينية.
*رؤوف رفاعي
كما تميزت المرحلة الحديثة باعتماد الكاميرا والفيديو والتركيب والمدارس المفاهيمية والتوظيف التقني كما برز في تجربة الفنانة سمر غطاس ورولا حلواني والفنانة ميرفت عيسى التي تفاعلت بين الطبيعة والتاريخ في المنجز النحتي والتجميعي إضافة إلى توظيف المفاهيمية الحديثة على رمزية الثوب الفلسطيني وتلوناته الفلكلورية من خلال تجربة الفنانة بثينة ملحم.
*محمد الركوعي
وبهذا لا يمكن فصل الفن التشكيلي الفلسطيني عن ذاتية التماهي مع القضية من خلال رؤية أحادية وتفاعل جماعي مع كل موروثه ومخزونه بمختلف علاماته التي خلقت رمزية في حضور المرأة باعتبارها الأمل والخصب والعطاء والمقاومة الزيتون بوصف طبيعة وقدم يحاكي قداسة الأرض ومدنها العتيقة وتاريخها الزخرف الذي يعني تواتر الحضارات وتنوع التاريخ والمعايشة التي تحيل على السلام وعلى الحياة والبقاء، دون تناسي فلكلور الملبس والعادات وكذلك المقاومة في صورة البندقية كفعل والصبار كطبيعة لا تعرف التحول رغم الواقع.
*ثريا البقصمي
عكس الفن التشكيلي في العراق التراث الشعبي وكذلك التوافق الفني الحضاري من خلال أساطير التاريخ العراقي أو من خلال الخط العربي والزخرف الإسلامي حيث تمكن الفن التشكيلي العراقي من خلق منافذ معاصرة للتعبير بتلك العلامات كما في تجربة الخطاط حسن المسعود التي نقلت الخط العربي إلى محاكاة الخطوط العالمية والبناء المعماري المزخرف للمحتوى أو في تجربة الفنانة التشكيلية ليلى كبة في عكس صورة المرأة على أيقونة الآلهة الأسطورية إنانا أفروديت عشتار لتهبها خصوصية وتفردا وأنوثة ذات قدرة خارقة على خلق ألوان الحياة، أو تجربة هيمت علي الذي سرد رموز الطبيعة في العالم منطلقا من مدينته بتراثها وطبيعتها المغمسة بالحنين الذي عكس ملامحه في كل تنقلاته فحافظ عليه ومنه حافظ على بصمته، والفنان محمد السعدون الذي قاس المعاناة والواقع بالذاكرة والحنين ومزج الخامة “الخشب” مع التراث في تجسيد الأبواب والزخرف والخط العربي.
*معتز العمري
أما الفن التشكيلي الخليجي فيعتبر نتاج بيئته فمنذ انطلاقاته الأولى عكس تأثره بها بكل تفاصيلها وحكاياتها بصحرائها وبخصوصيات التراث فيها، انطلاقا من البيئة العامة إلى الحياة والزخرف والطبيعة والعمارة والألوان والخط العربي والأصالة المكثفة في الفروسية وحياة التنقل في الملبس والتفاصيل في الصيد والخيل والحرف العربي والقصيدة والألوان العامة الترابية والأقمشة في الخامات الخشب والرمل والتراب في الرموز والعلامات وهو ما منحه خصوصية بدت ثابتة ومتشابهة أحيانا لكنها في بعض التجارب خرجت من التقليد نحو الابتكار من الواقعية الى التجريد فحوّلت العلامات التراثية إلى رموز كما في تجربة الفنانة البحرينية بلقيس فخرو والكويتية ثريا البقصمي، أو علامات ذات دلالة إنسانية كما في تجربة التشكيلي عبد الجبار اليحي والنحات نبيل نجدي من السعودية حيث اعتمدا على الخامة التراثية والقماش والجلد والحجارة ومنها انطلقا في التعبير الذاتي النابع من الأرض عن الإنسانية بمختلف قضايا الوجود والبقاء والواقع.
*محمد قباوة
الفن التشكيلي في شمال افريقيا هو توافق مختلف التكوينات الخاصة بالمكان فقد تماهى مع المدارس العالمية برموزه التراثية وهي التي ميزت كل بلد عن الآخر فبين تونس والجزائر ليبيا والمغرب نقع على خصوصية كل تجربة في علاماتها وإصرارها على الظهور، وبالتالي واقعها وتفاصيلها اليومية في تونس تعددت التجارب ومنها اقتبسنا تجربة التشكيلية التونسية يمينة المثلوثي التي اعتبرت الرمزية التراثية وشم هوية ونقش ذات في أعمالها التي ترسم خصوصية الأرض والمرأة والنضال دون الانفصال عن أنوثة صاخبة البحث عن التحرر من قيود الانصياع لسلطة الجسد والمجتمع والمقدس وفق تفاعلات خاصة عانقت الذات مع الأرض وتاريخها من خلال صورة النجمة والهلال أو “الخمسة” و”الخلال” وباعتماد القماش والنقش الأمازيغي الذي يسمها فهي ليست علامات جامدة فقد حرّكتها لتسرد قصة الوطن والجذور بالتركيز على الهوية والثبات والتنوع.
التجربة الجزائرية لعبت أيضا على مفهوم الهوية والوطنية والنضال والتحرر من قيود التبعية ومن التفسخ الكامل باعتماد التراث والهوية واللغة في الخط ورموزه أو في الخامات أو في العلامات الرمزية التي تفرز التنوع الكامل للأرض بتاريخها وثورتها.
إن التعامل مع التراث وخلق بعد رمزي في تأثيراته التشكيلية يعد بحثا معرفيا ووجدان انتماء كامل التواصل بين الفنان وبيئته وهوية انتمائه وكذلك تجاذباته المعرفية فهو لا يبحث عن خلق لوحة استشراقية أو خيالية حالمة بقدر ما يبحث في رؤاه الذاتية عن تأثير تلك العلامات في فكرته وهنا يرتقي بها إلى مستوى التحليل والاثارة والتلقي المتفاعل بالتناغم الفكري بين الفنان ولوحته والملتقي ما يخلق تواصلا كاملا وتفاعلا وتأثيرا يرسّخ فكرة الهوية وتطويرها وإنضاجها انطلاقا من عراقة حضورها إلى حداثة تأثيرها كمواكبة تشكيلية لتطوير عناصرها دون أن يقع في التقليد بل يخلق عملية ترسيخ للذات في العمل وبصمة تحيل على الوطن.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection
Leave a Reply