بشرى بن فاطمة
رغم أن بعض النقاد في قراءاتهم يرون في التكعيبية والسريالية وجه الحداثة المشوّه وأثرا نفسيا للتمرد الفلسفي وحكمة الفوضى في رصد مخلفات الحروب التي باتت تؤسّس لجماليات غير مألوفة وصور ماورائية أثارت صورة القبح فيها من انفعالات الصور المشوّهة للواقع، إلا أن القراءة الجمالية وهندسة الشكل وتفكيك الصور والملامح والأمكنة ومعالجة الفراغ والحجم والأبعاد وتفتيت الدوافع النفسية والوجودية تستدعي المقارنة والبحث في خصوصية كل أسلوب ونقاط التشابه والاختلاف الجمالي فيه ومنه وإليه وبالخصوص ذاكرة الانتماء وتوظيفاتها الرمزية.
ظهرت المدرسة التكعيبية في بداية القرن الماضي وقد أطلق الناقد الفني الفرنسي لويس فوكسيل هذا المصطلح عليها باعتبار كل الأشكال الطبيعية والتي تأخذ مكان الملامح العادية والمألوفة تتشكّل مثل المكعبات وترتكز على الأشكال الهندسية لإنجاز العمل الفني، فالهندسة هي أصل الأجسام، ولعل الموقف الترتيبي والمرحلي في تكوين التصورات الجمالية للتكعيبية أكسبها موقفها الجمالي والمفاهيمي من الفن والانسان ومن الواقع خصوصا من خلال التنقل من التكعيبية الى التحليلية والتركيبية وهنا كانت الصياغات مختلفة بعض الشيء في الخطوط والخامات في التوظيف المباشر والاثارة وقد خلدت التكعيبية أعمالا إنسانيا كانت مميّزة.
فمن خلال الرموز والأشكال الخطوط وانكساراتها كان التعبير عن الحالات والمزاج العنف والهدوء الوجود والبقاء والعبث في تصنيفات الواقع واحتمالاته وهو ما خلّدها كمدرسة فنية تمكّنت من أن تفتح منفذا تعبيريا للفنانين للابتكار خصوصا والاشتغال على الكتل بعبقرية الهندسة والتشكيل من خلالها فهي كأسلوب تعبيري قد يبدو محاصرا في قوالبه إلا أن فيها مرونة وتشكلا وتفرّدا استطاع أن يعبّر عن الإنسانية وعن التصور الأبعد في الخيال بين المادة والفكرة في المكان والكون كجزء وانتماء يشكل العواطف في تصورات مشحونة بالتلاشي والحضور.
وقد استمرت التكعيبية في نماذجها المعاصرة معبّرة عن المواقف الإنسانية بين التشيؤ والمادة والمبالغة في أنسنه الشكل وأدلجة الحواس وتوظيف الذاكرة مع اللون ومحاورتها بشكل عقلاني صارم التجادل والاندفاع والجدية.
أما المدرسة السريالية كتصوّر حديث للفن يعبّر عن التمازج الفلسفي والحسي بشكل تلقائي يتعمّد التوظيف النفسي والعامل اللاواعي حيث يطلق العنان للخيال والحلم لمحاكاة المواقف الفنية والتعبير من خلالها بجنون وفوضى وتصورات تتفوق حتى على الخيال لتلامس بجنونها اللامعقول في الصور واللون والحركة والرمز.
فهي تعبّر بشكل متداخل عن الحالات والمزاج والكوابيس الواقعية تعبّر كحركة عن فلسفة بصرية وجودية وعنما يختلج الإنسانية.
تعبيرها سخرية من واقع مشحون بالفروق والأحداث بالصخب والدمار الحروب والتفكك الاجتماعي، بالفلسفة وعلاقة الفرد بالمجموعة بالقلق والحيرة والخوف والتداعيات الباحثة عن منافذها في الكون.
ورغم أن كلا الأسلوبين له منطقه التوظيفي للمفاهيم والخامات والمواقف إلا أن المراحل التي اختلفت في الظهور وتدرجت في الفهم والقراءة سواء للتكعبية أو السريالية جمعتها كأسلوب في المراحل المعاصرة ما خلق علاقة من التشابه الذهني بين الصورة وتلقيها أخرجتها بمستوى فني من تلك الصورة المعتادة كلاسيكيا على قيمها أشكالها كتلها مثالية تصوراتها وموازينها إلى المفهوم الخارق للعادة التشكيلية والجمالية ومن منطلق الإفهام إلى القراءة الماورائية.
تميّز الأسلوبان بالحرية والحركة بمراوغة الفراغات والكتل والمساحات وأوزانها وتداعيات انفعالاتها أخرجت المتلقي من حركة المشاهد المألوفة إلى الصور الجديدة التي وسّعت الخيال وحرّرت الموقف الذهني والعاطفي من الوجود والانسان والواقع والقضايا والفن بالانطلاق الحر بالحركة والتدفق المنساب بالتعبير.
استطاع الأسلوبان أن يحطّما الاعتيادي في لغة التصور التشكيلي وتجريد مستويات القراءة والترتيب والتجرد من قيمها نحو بناء قيم جديدة وهو ما فعلته التكعيبية، أما السريالية فقد حطّمت الواقع وبالغت في مستوى رؤاه البصرية النفسية والانفعالية وحذفت من المعتاد ألفته وشكّلت فيه هواجس وكوابيس التي أصبحت لها دلالة ومعنى ورمزية وقراءة.
إن تصور الأعمال التي جرّدت الصور من وظيفتها وأنسنتها في الكون تجلت نتيجة التطورات التقنية والعلمية وحركتها الابتكارية التي استلهمتها من التقنيات مثل المكبر والأحجام الميكروسكوبية والتطور الزخرفي والهندسي والانفتاح على الثقافات الأسيوية والافريقية وفنونها، والسريالية بدورها تطورت بتطور علوم الانسان وفلسفة الوجود وعلم النفس وهو ما يفسّر انسياق رواد التكعيبية في تجريب السريالية باعتبار الترابط الفكري بي التيارين ومرونة التجريب.
فالتكعيبية ترتبط بالأرض كمركز أما السريالية فهي تحليق لا مكاني في فضاء ممتد من الذاكرة إلى الحلم فالفكرة والمنجز.
*الاعمال المرفقة:
Juan Gris -Adnan Yahia-Salah Bushandy- Derrick Gomez- Albert Gleizes- John Corka Cornin- Paul Wunderlich -Andre Masson
*متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply