اعتماده الحرف العربي بتصوّرات تشكيلية ورؤى تجريبية معاصرة، لم يكن مُجرّد عنصر عابر في مسيرته التي بناها وامتطاها بألوانه وتفاصيل حركته طيلة عقود، كان منهمكا على الاشتغال الحر بالجمال حتى داعب فيه الحرف بالنص والكلمة بالمعنى الذي استنطق مجازها تشكيليا، فأسس مسيرة عمق بصري وجمال حروفي هو التشكيلي الراحل فاروق لمبز الذي غيّبه الموت في 12 من شهر ديسمبر، جسدا ولن يستطيع أن يغيّبه فنا وتجربة وحرفية وإنجازا خالدا عبّر ويعبّر عن مسيرته ومساره بكل ما في الجمال من تحرّر وما للحرف العربي من تعابير اختارته فنانا وتشكيليا تميّز بها وميّزها حتى الموت وأسّس مساراتها الجمالية الخالدة.
ليس من السهل علينا أن نرثي فنانا لأن الفن يحاكي خلود البقاء الثابت والمنجز المتدفق بحثا واستمرارية فليس من المعتاد تجاوز إرث صاخب بالفنون ولعل تواصلنا لم يفصلنا عنه فنانا بقيت لدينا منه ذاكرة محمّلة بشغف الانتماء للإرث الجمالي والفني والإنساني.
فقد كان عند أي تواصل معه دائم الاندفاع بحثا عن تفسير فني يعيد تشكيل المعنى المألوف ويخرجه من روتينه التعبيري كان دوما يحاكي مسيرته وينتقي تفاصيلها من خلال لوحاته يقول في لقاء كان قد جمعنا به منذ سنتين،
«عندما توجّهت للخط لم أقصد أن أكون خطّاطا وإنما توجّهت إليه كرسّام، لأن للرسام حكمته العميقة التي تدفعه للتجريب وتختار له مسارات النفاذ للجمال اللامكتشف في ثنايا التعبير التشكيلي والبحث عن التفرّد الأسلوبي.»
وهذه هي الحكمة الناضجة بالخبرة والمعرفة والبحث والتحدي في اختيار مجال دقيق بجمالياته وعبقري في ابتكاراته لتوافقاته الخاضعة للهندسة والفضاء للمعنى والمجاز لغموض الرمز وامتلاك حيرة القراءة.
إنها الأساسيات التي قادته لعالم الحرف واللغة والتعبير من خلالها عن الذاتية الجمالية التي مكّنته من إدخال الحرف على حركة فرشاته ومراقصة ألوانه بنورها وظلالها على إيقاع فني بناه في مساحات أخضعها لهندسات اللغة والمعنى والتعبير والزخرف وإيقاع الحركة الروحانية التي تشكّلت مع ألوانه وتصاعدت مع خطوطه لبناء الزخرفة التي بحث عن مجاراتها فأكسبها أبعادا ما ورائيّة التكوين، جرّدها من عناصرها التزيينية لتمتزج مع الطبيعة في مواسمها وتفتح منافذها التعبيرية على مساحات وأماكن جديدة وصور ماورائية تجادل بنضجها الملون عراقة الخط ومرونة الحرف.
إن التأمل فيما قدّمه الراحل فاروق لمبز فنيا للحرف العربي يجعلنا نخترق مراحل النضج التكويني لما أثاره في اللغة من توافق بين عمق ما هو تشكيلي وعراقة ما هو حروفي من خلال اندماج اللون والظلال والنور، فقد كان يركز على خلق تماس طبيعي بين تكويناته الحسية والذهنية بتقنية ميّزته في ابتكار الأداء الإيقاعي المتحرّك وتوليفاته التناغمية ليريح عمقها حواس المتلقي ويسافر باحثا عن تدافعاتها المتصاعدة والمتماسكة والمترابطة مع صيغ المعنى وتحوّلات المزاج وعلامات المجاز وهذه التوليفة كثفت الصيغ ومزجت الحروف مع الألوان والخطوط بتداخلاتها والتحامها.
فالتقنية التي ابتكرها الراحل تقوم على تثبيت الحرف على الورق يدويا ليتطابق الفراغ العميق معها كعنصر أساسي وفق تشكلاته ومع طبقاته التي تضيف للأبعاد تناسقا وتكاملا يستدرج تلك العناصر للاندماج لتبدو أكثر تلقائية، فالحرف بترابطه مع اللون بانشغاله بالمعنى في ثراء حضوره، وبالخط في توازنه الشرقي المشرق بسلاسة خطّ الثلث ومرونته وتراكيبه وحدّة أطرافه يتماسك ويتفاعل ويتناسق ليبدو مألوفا كلاسيكيا رغم معاصرته الواضحة وهنا أسّس لرؤية معاصرة لم تنسلخ عن هويتها الشرقية.
فقد أدرك ثراء التراث ودوره في التراكيب الأولى التي يجب أن تحيل على عوالم زخرفية وهندسية بطبيعتها وألوانها لتمنح اللغة البصرية أطرا تجيد استدراج المتلقي بالحنين والذاكرة وبالعمق والحضارة وكذلك بروحانيات استنطقت العصر في إيقاع الواقع.
للألوان التي دمجها وكثّفها ميزتها فقد تركها تمارس اندفاعها بعفوية وتحاكي الحرف والمعنى في تشكيلها للأبعاد وتدريجها الداخلي وفي مفاجأتها لفراغ المساحات بجدوى التعبير الحقيقي والمقصود من مساحاتها التي كسرت طبيعة التدرج اللوني في مداه الحاضر والمتخفّي مثل اقتحام اللون الأصفر وإشعاعه أو اللون الأحمر وحرارته للمدى الأزرق السابح في فضاء اللوحة أو لكثافة اللون الأخضر الذي يتبادل الحضور ويجادله مع الحروف، وهو ما أكسب التقنية التشكيلية العمق من خلال توحيد اللون ظاهرا وتفعيله مع بقية الألوان حركة، كما أن الظلال والنور لها أيضا حيّويّتها التي أثارت العناصر ما منح الأبعاد تصوّرات المساحة فضمن التخلّص من وهم الفضاء وبالتالي المحاكاة الكاملة للحركة والايقاع في التحوّل المرئي والتصور الماورائي لفكرة الحرف واللون والمعنى. ارتكز فن الراحل فاروق لمبز على التصورات اللونية واقترن في تداخلاته مع الجدليات الزخرفية وتدافعات المعاني التي عانقت بحريّتها فضاءها دون أن تفرض خللا في الحركة بين الحروف والمساحة والتشكلات اللونية وهي تمارس اندفاعها وحرية اختيار اتجاهاتها بين الأشكال الهندسية وهي تفرض حالاتها دون أن يختلّ توازنها.
وهذا الأسلوب ابتكره الراحل إحالة على الدوران اللامنتهي الذي فرض علاقة بين الخطوط والأشكال في الفضاء اللوني وهو يتحكّم في النور والعتمة والسطوع، فكثافة ثنائيّة اللون حافظت على التوازن الشكلي والإيقاعي بتوظيف الزمان والمكان في تواتر فكرة الحضارة وتاريخ التجديد العريق الذي خضع لمنطق التوظيف الجمالي للخط والحرف في تركيبة اللوحة المعاصرة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply