بشرى بن فاطمة
أثارت التجربة البصرية التي عرضها مؤخرا التشكيلي الألماني أنسالم كيفير في فرنسا الكثير من التساؤلات والعديد من التحوّلات بين مدى تعاون الفنون ودرجات الفهم والتواصل بينها، من خلال الأخذ والعطاء والتحاور والتجادل وبالخصوص بين الفن التشكيلي والشعر.
فتجربته التي اشتغل عليها منذ سنتين، ميّزت عالم العزلة الاجباري التي دخل فيها العالم ومدّته برؤى بحث خلالها عن طرق التعبير الإبداعي بين المعاناة الوجودية والانعتاق الطبيعي من خلال التعمق في النصوص الشعرية لا كإدراك للصور فيها بل كتعبير يحاورها أو يحاول الإجابة عنها، وهو ما قاده نحو شعر الروماني باول تسيلان الشاعر الذي ميّزته اللغة وقتلته في آن حيث حمله قلمه نحو الكتابة باللغة الألمانية، فخاض في تفاصيل شعره معاناته القاتمة، فكان يجادل الجلاد والقاتل ويستحضر مجاز الموت، ذلك المجول الذي مشى عبر حروفه كيفير فبحث في زواياه المظلمة عن مجاز الصورة وانعكاسات المخيال البصري في تلونات قاتمة ومشرقة، تجوّل نحوها وحاورها حرقها ورمّمها، سافر بين دروبها بسراج الكلمة وتشكّل المجاز وحفر تناقضاته الحسية المتداخلة بين الحق والعدوان في أن يكون الشاعر مظلوما وظالما حاكما وجلادا معتدى عليه ومعتد.
ولعلنا هنا لن نخوض في تفصيل التجريب الذي اعتمده كيفير، ولا عن توضيح الجوانب البنيوية بين المنجز الفني والشعري وتداخل التشابه في كلا التشكلين الشعري والبصري، بقدر ما سنتعمّق في تفاصيل العلاقة المتشابكة بين الشعر والفن التشكيلي تلك العلاقة التي تُعتبر كتابة ضد الكتابة أو تشكيلا موهما باللغة كما يقول كيفير، فبقدر ما يحمل الشعر الأسئلة يحمل التشكيل الأجوبة وهنا يقع التماس التاريخي الذي ميّز تلك العلاقة وبالخصوص التطوّر المرحلي نحو التجريب المفاهيمي ودلالته الرمزية للغة الشعرية حيث يعتبر النقاد أن الفن التشكيلي ساهم في تطوير الشعر وأن الشعر أيضا حرّك بصريات الفنانين، فقد استطاع التشكيلي أن يعبّر عنما عجز الشعر عن طرحه من صور وبالتالي كان التكامل في تلازماته مرتبطا بمحاورات خاصة، فالشعر في مستواه الحديث استطاع أن يجاري تطوّرات الحركة التشكيلية مثل الشعر التعبيري والسريالي والمفاهيمي وتداخل مع الفنون التشكيلية في عناصر الأداء المعاصر والطرح الذي بلغ مستويات التجريب لفنون ما بعد الحداثة.
إن العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي لا تتعدى جوانب المقارنة لأنها تتعمق أكثر في درجات الوعي وبالتالي الفهم الذي جادل ما بعد الصورتين كأن خلق جدليات ومحاورات أخرى فتحت منافذ الصورة الماورائية والمعنى الأبعد، إذا ما اعتبرنا أن الشاعر بدرجة أولى يصوّر كلماته والفنان ينضم صوره، وهنا نقع بين تناقضين شبيهين لا يختلفان عند نقطة التعبير ولكن يختلفان عند التنفيذ، فيكون لما بين اللغتين انعكاسات بصرية وهذه هي المحاورات التي أشار إليها كيفير في أعماله الأخيرة وفتحت فكرة التجريب التي لم يكن بدوره سباقا فيها ولكنه حاول أن يراها من زوايا أخرى تجلّت في فكرة الانعزال بين معنى التجريب ومعنى النفاذ بين الهدم والبناء وبين الحياة والموت في كل مساحة تعبيرية شعرية وتشكيلية.
وقد تجلّت كثيرا هذه الجدليات التي استدرجت الفنانين إلى عوالم مختلفة من البحث عن المفاهيم بالنبش في الأسباب والحالات، كتلك التي قادت إلى تفكيك صور بودلير الشعرية وباول تسيلان ودانتي وأراغون لترميم تلك الفجوة الطافحة بالألوان والتجريب الذي فكّك الصور بين العالمين وسعي كل منهما إلى التعجيز الإبداعي في تحويل الإحساس من العدم إلى الحضور المبني على التكامل المرئي الملموس والمحسوس والمدهش في عمق تجادله مع الذات الانسانية.
وهنا نقع على تجارب عربية مهمة خاصة وأن التعبير العربي بالشعر له تاريخه الحافل بالصور والتشابيه والمجازات المختلفة والمتنوعة بل مناحيها الفكرية الحسية الفلسفية الوجودية التي قادت إلى خلق روح التجريب فيه كعالم مبني على قالب اللغة حيوي برؤى الصور والتصورات، وبالتالي فإن البحث في خصوصيات النص تجوّلت عبر مبتكرات القراءة وحجب الغموض التفسيري والسعي إلى تجريده بصريا وحسيا وترميمه رمزيا بخلق تماس ملوّن لعوالمه المشرقة والمُعتمة الكئيبة والفرحة حسب تدرجات المواقف والأحداث والحالات والمواقف فقد تملّك الشعر العربي القديم والحديث، مثل شعر المعلقات وقصائد المتنبي وأبو فراس الحمداني، قاسم حداد ومحمود درويش وجبران خليل جبران، عوالم الفنانين فصاغوا من لوحاتهم جدليات التحاور تلك التي حفرت القصيد من تراكمات الخامات المصقولة إلى الخامة الحسية الداعمة والمتكاملة مع موازين الترنّم والغنائية وتناقضاتها المشحونة مع الواقع حيث تمت صياغتها البصرية بين الحروفيات وبين التعبيرية والسريالية التي عبّرت عن الانتماء والجذور والبحث عن الذات في الوجود والتمازج الحسي المتماهي مع الواقع وصداماته فكانت تلك التراكمات كثيفة وهي تعانق المواسم البصرية ومراحل التغني المجازي بالصورة الحسية للشعر في منافذها الرؤيوية وهي تتماطر وتتهاطل وتُشرق أبعد في عمق التصورات الشعرية التي تعتنق نصوصها وترتجلها بصريا وتحملها معها في التجريب التشكيلي بين اللوحة والمنحوتة فتكوّن من خلالها رؤى أبعد في خيالات الزمن وترقبات المستقبل وتدافع الحاضر بين أمل وألم بين حسيات واهمة وأفكار عاقلة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
خالد ترقلي أبو الهول-صالح الهجر-أسامة دياب-حسن المسعود-إبراهيم أبو طوق-بسام كيرلس
Leave a Reply