بشرى بن فاطمة
مرّت التجربة التشكيلية النسائية بتطورات مرحلية تفاوتت فيها أساليب التعبير وتغييرات الاندماج والانكماش والتمرّد والانطلاق والبحث الفردي عن التوازنات الإنسانية بين الواقع والمجتمع والكيان والوجود.
فبين البناء والبحث عن التكامل وبين الريادة والتصنيف والتفرّد في مختلف مستويات التعبير ومن مختلف زوايا التجدد والانفتاح المُكتمل، تجلّت فلسفتها وثقافاتها وتعمّقت تجاربها وانفلتت بين أعماقها لتثبت حضورها رغم تهميش التاريخ أحيانا، ودون انفصالها عن الانتماء، ما يجعلنا دوما على موعد مع الاكتشاف لتجارب تشكيلية لها بصماتها الثابتة.
فالحديث عن أي تجربة بصرية نسائية يٌخضعها لترتيبات في درجاتها التكوينية المتباينة لرصد إشكالياتها التنموية دون استنقاص قدراتها على الخلق والابداع والابتكار، لأن المرأة وعبر كل ملامح التاريخ الفني كان حضورها تحديثيا أخرجها من مُجرد صورة لعنصر أيقوني إيروتيكي تعبيري في المنجز الفني إلى حركة تشكيلية استمرّت مُستقلة بتجاربها.
وقد اعتمدت المرأة في تواصلها مع المنجز الفني على علامات بصرية مُتنوّعة اتّخذتها رموزا لها لتكوّن فلسفتها البصرية وتستثيرها أبعد في المخيّلة وأبعد في التواصل مع الطبيعة والكون وخلق التصادمات الفكرية ونبش فكرة الوجود والواقع وانتشال الذات من تدافعات التحكّم فيها وتعاصفات التصنيف والمقارنة، وهو ما شدّنا لتجربة التشكيلية الصينية الأمريكية بريندا لوي التي حملت علامات الزهور كمفهوم رمزي للتعبير عن كيانها الأنثوي الحر في الأرض والكون، مُشكّلة من خلالها مسيرة ترحالها بحثا عن الأمان هربا من موطنها الأول الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية غير أن فكرة بريندا في توظيف الزهور كتواصل كوني مع الأرض والطبيعة ليست الأولى في تجريبها ولكنها المُتفرّدة في تعبيرها، حيث اتخذت من الزهور ملاذا لها لتحليل حضورها وانطلاقها أبعد في البحث عن ذاتها في الأرض، لتتشابه عناصر مفهومها مع تجربة الأمريكية الرائدة «جورجيا أوكيف» في مرحلة الزهور التي شكّلت في تاريخها الفني مُنعرجا تعبيريا لامس حضوره المُؤثر على بقية التجارب النسائية، فأين تلتقي التجربتان وأين تنفصل حدود التوظيف الرمزي لها وكيف استطاعت بريندا أن تُثبت كيانها بعيدا عن التقليد؟
زهور تملأ الفضاء بشكل مميّز
تتشابه التجربة التعبيرية بين بريندا وأوكيف في ملأ الفضاء بطريقة مُميّزة حيث يستوعب الكون كل ذلك الصخب الناضج لتلك الزهور وهي تبني اكتمالها الأنثوي وتستسيغ كيانها بثورة تحمل جمالياتها الطبيعية وهي تتصدى لكل معيقات التجرّد والعدم والاندثار لتكون ولتتكوّن وتتجمّل أكثر في انتظار التلاشي المُفعم بالحياة بالأمل بالتفاؤل بالفرح، ولعل تلك الخصوصية هي التي حمّلت المعاني الأولى للعلامة البصرية تفاسيرها لترتبط الزهور أولا بالأنوثة بالحركة الجنسية المُشبعة بالخصوبة وبالألوان بعد التكوين غير أن مُجرّد التعمّق في المقاصد وتفسيرها يستطيع أن يحيد بها عن تعابيرها لتنمو مجدّدا بين الرموز لغة تشكيلية لها عمقها في محاكاة السردية البصرية.
فالتشكيلية الصينية بريندا لوي عاشت في هونغ كونغ ودرست الأدب الصيني الكلاسيكي وفنون الخط فتمكّنت من الرسم بالفرشاة لتعبّر عن واقعها ومعايشاتها للقمع السياسي، حملت مواقفها ومارست حقها في التعبير بأساليبها الفنية التي جعلتها تدفع ثمنها بالنفي والتشرد والرحيل هربا بكل ما تملّكها من لغة فنية مزجتها مع التيارات التعبيرية الغربية من تجريد ومفاهيمية وفنون الصورة الفوتوغرافية والفيديو آرت والبوب آرت فكان ذلك المزيج الشرقي الغربي فرصتها لتوظيف طبيعة بلادها وتوافقها مع المدى الفلسفي في التجريب الغربي لعلامات الصورة لتهب أفكارها للوحة المسكونة بالنور في تلك المنافذ التي تنبثق من المسطح الأسود لتنمو فيه زهورها مثل نقط تتشكّل سابحة في فضائها فهي لا ترى في المساحة الواسعة سوى غموض مُبهم يستبطن عمق اللوحة يتجمّع حوله النور ويتلامس حضوره في العتمة ما يمكنها من احتلال الفراغ والتجمع أكثر على الأشكال كتبرير بصري يحمل تناقضات تحوّل فوضى التماس بين كل الأشكال إلى تناسق مزهر رغم كثافة الحواس بين الحزن والحيرة والخوف والسلام والهرب والرحيل.
فلا تتوقف لوي عن التجريب لأنها تحاول أن تفرض حضورها على كل المدارس وتعبّر عن مفاهيمها من التجريد إلى المفاهيمية والأداء الذاتي والتصميم وهي تعبث بزهورها وتبعث في كيانها الحياة مشكّلة مواسم الخصوبة مثل أوكيف تبدو زهورها كعلامات تستنطق الحياة وتتعمّق بها في التشكل بين الألوان لتبدو سابحة في فضائها كأنها تتهاطل معها وتتماطر في عصفها المتدرّج بين العتمة والنور وبين البعث والاندثار، حسب فلسفة الخلود تتبع الألوان المشبعة بالاحتمالات الباقية على الأمل بين الفراغات وبين التناسق المفصّل في رموزه المنحنية التي تستدرج النفسية المضطربة والمتداخلة لتكون أكثر هدوء بين الحنين للأمكنة والأفكار والأحاسيس حيث الضوء واللون يتجادل بين الداكن والفاتح، لإعادة الثقة والتشبث بالذات والهوية المؤنّثة للحياة.
فبالزهور تداعب كل منهما أحلامها وذكرياتها لتجمع بين الخفة والتشنج والاسترخاء والسمو مثل الطاقة التي تبعثها طبيعة الشرق التي أتت منها بريندا في الصين والتي تأثرت بها أوكيف في اليابان، لتكسب كل منهما عملها موازنات العقل والخفة والتشنج والاسترخاء وهو تفرّد يغري بدهشة قادمة في كل عمل يروّض الحواس مع ازدواجياتها الفكرية دون أن ترضخ للقيود، فقد حرّرت بريندا لوي ذاتها من صدام الشرق والغرب وخلقت لها عوالمها الجمالية، فخلقت جسر عبور روحاني بين كل عوالمها.
وهي الحكمة التي تجلّت بشفافية وحضور مفعم بالجرأة في تجربة جورجيا أوكيف حيث كانت لزهورها انبعاثات جادة حوّلت وجهة التفسير من شبقية الرؤى وتفاعلات الحركة الجنسية بين الكائنات التي تراءت في ظاهر تلك الأعمال الملونة، قدّمتها في زهورها وهي تحاكي الصور النمطية الأولى لمفهوم الخصوبة في الطبيعة متجاذبة مع أنوثة الزهرة ولكنها أرادت أبعد من كل تلك القراءات والتفاسير أن تتدرج نحو الباطن الحر المعبّر عن الذات الطامحة للتحرّر من قيود المجتمع والتهميش الذكوري لقدرة المرأة في عالم البصريات والتشكيل فهي وكما تقول رأت ما لم يمكن لأي انسان أن يقدّمه في مجرد زهرة بسيطة لم ينتبه لتفاصيلها أي عابر، عالجتها بشكل دقيق لتحيل المتلقي إلى عالم مختلف يتفاعل فيه الحضور القوي للحياة للصمود أمام التداخل الهش بين عناصرها والانحناء والتشكل والظهور بجمالية التشابك وانتصار المحبة في حرياتها العابقة، لتكتب بين انحناءات كل ورقة وبتلة قصة البعث الحر والتمازج بين الصور الحسية والحسّاسة بما خلق تطرّفا جماليا صاغته أنثى عابرة بين طبيعة الأرض باختزال تجاوز الصور الجنسية وأخرجها من أطرها الضيّقة.
إن علامات الزهور في الحضور التشكيلي بين لوي وأوكيف خلق شبيهان متناقضان في الأنوثة الطاغية في حركتها وتفصيلها ورؤاها وجمالياتها ودقّتها وبحثها عن التحرّر في فراغ المساحات المعتمة نحو النور ومتناقضان في سرد الأزمنة وتمرير الفكرة ومعالجة المفهوم فقد تجاوزت بريندا المساحة الضيقة للفكرة الذكورية تلك التي فرشتها ومهّدتها من قبل أوكيف لتسمح لكل امرأة بدخول التاريخ البصري وحياكة تشكيلاتها المتلألئة من انبعاث الطبيعة وطغيان جماليات العمق فيها.
*الأعمال المرفقة:
-متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply