بشرى بن فاطمة
«يسكنني الفن ويقلقني في نفس الوقت»، تلك المفارقة التي تحمل الكثير من المعاني هي التي وضعتنا على محمل البحث والتأمل والعناد والتعمّق بين لون ودرجة وبين خطّ وتعبير وبين رمز وأسطورة في تداخلات الهوية والانتماء مع كل تلك الملامح التي تخترق حضورنا وذاكرتنا وخيالنا رغما عن كل الوقائع الكثيفة التي طغّت الحيرة في حركة التجريب التي صاغها التشكيلي السوري غسان عكل.
فقد جمعتنا به اللوحات واستدرجتنا أكثر لنعرف حكاياته البصرية في سرديّة مشوّقة معتّقة بالتاريخ والملاحم بالتوق للمحبة في مكامن الإنسانية رغم قسوة الواقع وزحمة الأحداث وصراع البقاء للأجمل كما يحاول أن يعبّر عنه في أعماله وفلسفته البصرية، خاصة وأنه يرى في تجربته انعكاسا عميقا لهويّته وكثافة ما تخزّنه ذاكرته من وقائع وتفاصيل ومن رغبات ارتكزت على تلك الخيالات الطفولية التي سجّلت لديه كل الملامح التي حوّلها إلى كائنات نابعة بالنور والحياة والفرح الصامد.
يقول عكل «دفعني الفن لأبحث عن التميّز وقادني من خلاله لأستمر في ذلك البحث من خلال التجريب حتى أقتنع بالمواكبة وأتفاعل مع التجدّد دون الاكتفاء بالقوالب بل بالغوص في التوافق والانسجام أكثر مع توليفات التكوين العامة للأحرف العربية التي منحتها دورها في أن تكتسح فضاءات اللون حتى تباينت معه وتشكّلت في حضور غير مألوف أو مقلّد.»
فقد تجسّد الحروفية التي جرّدها عكل من دورها الخطي الحامل للنص والمعنى في تحمّل دورها في كشف الانتماء والتعمق في رؤى الذات وهويتها، فمع استعمال الأحبار وتوظيف رؤى التمائم والرموز، انعكست تأملاته وفلسفته في إنتاج اللوحة بتداخل متناغم بين الفكرة والأسطورة مع نثر الحروف لتكسر حواجز السرمدية.
لأن تفعيل الانتماء وخلق التوازن العام للوحة، جعل الفنان يحيلنا إلى دوره المتكامل في صناعة الرؤية البصرية لكل عمل خاصة وأنه يلعب دوره في إخراج سيناريو محكم للتعبيرية المسرحية أو السينمائية التي تنتقل عبرها المشاهد الحيوية وتصفّف وفقها الشخوص وترتكز في مكانها المبني على ذلك التماهي مع العمق الحروفي في المنجز ليتناغم العمل ويتكامل بين عناصره الفنية أوّلا ومع أدوار الشخصيات بالأساس.
فالشخوص لا تنعزل عن الفعل بقدر ما تتداخل وتتماهى وتعبّر عن وجودها المُجدي داخل المُشكّل اللوني والمُسطّح المُتعمّق شيئا فشيء كلما غاص المُتلقي في عمق الملامح وتماثل اللون أكثر مع الأدوار وانسجامها وصدامها ومعاناتها وقوتها وضعفها وكل تناقضاتها.
تشكّل اللوحة التي يقدّمها غسان عكل نماذج واقعية من الحياة اليومية التي يحاول أن يملأها بالفرح والحالات المُشبعة بالحركة والتمازج الحسّي مع الواقع الذي اختاره لها حتى تتوافق معه بين تجاذباتها وتناقضاتها وأحلامها وخيالها وطبيعة وجودها، فهي التي تتكامل في تفاصيلها بين المحبة والألفة.
فقد استفاد من التباين اللوني ليخلق تواصلا بين المُتلقي والعمل الفني الذي يضمن تكاثف رؤيته الفعلية للعمل وحتى تتواتر الألوان بين البني والأصفر والأحمر والأزرق، ما أضاف له نوعا من الهدوء في المزيج المتناقض حتى لا تنفرها العين خاصة وأن اللوحة تراوح بين التدرجات الداكنة والتقارب الترابي في الألوان كمشهد أولي تلتقي فيه العين عند أول اتصال وهو ما يمكن تفسيره جماليا بحالة الغموض المثيرة التي تجعل المتلقي يستمر في البحث عن النور وهنا يكتشف أن ما يميّز الأعمال هو ذلك الضوء الذي يُبعد سمة القتامة عن اللوحة ويستثيرها لتبدو حقيقيّة رغم غرابة شخوصها حسب قول غسان عكل «أنا ابن الفرات الذي يميّزه الضوء لأنه يجعل الألوان تبدو طازجة وحقيقيّة تحت نور الشمس فمن الضروري أن أحتفل بالشمس في أعمالي، مواضيعي تشبه إلى حدّ ما الأسطورة في ملاحم التاريخ الممزوج لعناصر الأنوثة الخالدة في تأملاتها عشتار وأفروديت وعمق النتماء للقوة والتضحية في تأملات فلسفة البقاء بين أنكيدو وجلجامش وحوارات شخوص تعبُر قصصها التي لا تنتهي».
تتحمّل الخامة التي يطرحها غسان عكل الكثير من الشغب البحثي في أعماله لتكون مدلولاته ذات الرموز العذبة والساحرة وتحمّل شخوصه صفاتها الحالمة المتأثرة بالبيئة التي انتشلت منها ألوانها وطباعها تلك الصحراء التي تنتمي إليها وتتعايش مع فضائها الشاسع، فقد قام بتفعيل الموروث الحضاري والأسطوري بكل ما يحمله من أشكال في التكوينات الإنسانية المبنية على التناقضات بين التضحية والفناء والعدم، فهو يجسّدها ليعيد ترتيب الرسالة الإنسانية للفن من خلالها مستفيدا من تخصصه في الغرافيك الذي ساعده على التركيب اللوني، وأضداده التي توافقت مع هويته البصرية الغارقة في تنوعها المشهدي في وطنه سورية بكل جغرافيا الثراء في الأرض وتناقضات الطبيعة والحضارة والانسان في تكوينها الترابي وتلازمها الضوئي وتفاعلها المتلألئ مع العناصر البصرية، فبين الشمس والماء والتراب تشكّل الثراء الملون في تفاصيله الحسية والتعبيرية والتداخل البصري معها ومع المخزون الحضاري الذي حمله وصقله وبلوره مع الخصوصية المتكاثفة في عمق الحضارة السورية ما شكّل عنده فلسفة لونية لتراكيب الأضداد الحسية في الألوان الحارّة والترابية والترحال عبرها في تدرّجاتها فرغم الميل للعمق الداكن في السطح إلا أن رغبته الطفولية وذاكرته المفعمة بالشمس تحمله لأن يشرق بلوحته ويحتفي فيها بالضوء والدفء.
فهو متفرّد في عناصره ومواضيعه وخاماته وحفرياته التي حملت هويته البصرية الغارقة في عمق الحضارة الغنية باللون بالتنوع البشري وبجماليات الزخرف وهندساته وتأملات الشكل والخط العربي ليكوّن جمله البصرية خاصة به.
فمنذ بداياته لم يتخلّ عكل عن ذاكرته المشبعة بطفولاته المنسابة وراء الخيال وعن مزيج اللون المتقلّب بين درجاته ليصل إلى تحفيز رغبة الفكرة في تحصيل المشهد وتحريك الإشارات البصرية نحو النور المقصود مع دوافع الأمل التي يختارها في منجزاته، التي رغم تأثره بكل الأحداث والوقائع سواء في سورية أو في المنطقة ككل، إلا أنه اعتبر الفن ولغته التعبيرية التي اختارها قادر على أن يفجّر بداخله الإمكانيات الإبداعية لأن كل ذلك التراكم الواقعي والصدام البصري للمشهد استطاع أن يستوعبه بعمق باحث في منعكسات الأثر الباقي فيحتوي الجوانب المأساوية بالكثافات الحسية والتداخلات البصرية والتحليل العقلاني ما سمح له باتخاذ مواقفه الجمالية رغم كل ذلك ليكون قادرا على لمس التفاؤل وتسريبه أكثر للمتلقي بأسلوبه البسيط وتعابير شخوصه المشاركة في ذلك الطرح.
المصدر متحف فرحات
Leave a Reply