يندفع بفنه نحو عوالم متنوعة ويكتشف أحاسيس دفينة في تماس يعبّر عنه واقعيا رمزيا تعبيريا بكل التمازج البصري القابل للتماهي الجمالي مع اللون والشكل والحجم، هكذا يقف التشكيلي السوري أسامة دياب متأملا زواياه وفضاءاته ممتطيا صهوة الأمل بحكمة حالم وعمق مسافر عبر الأزمنة منتصرا على الحلم بمواقفه التي تبدأ من الانسان وتنتهي عند الإنسانية.
تلك التي بها يتعدى مدى القسوة في حدّة اللون القاتم وصمود الألوان الباردة مع المساحات الداكنة وهي تعبث مع النور بتماس أليف لتتجاوز الظلال السوداوية المنكسرة تحت رمادها ومدى الفكرة في تضارب المفاهيم وهي تلامس حقيقة البشرية وصداماتها وفوضاها العارمة.
ففي تجربته الفنية ينطلق دياب من عالمه الخاص ومن مشاعره الصادقة وانفعالاته المراقبة لكل ما يجترح وطنه من غضب وفوضى وكل ما يخلق صموده من محبة واستمرار ليروّض التوافقات بتوازناته الحادة والحاسمة وينتصر لذات الفنان الحامل لرسائله كمبشّر مقنع بالحياة وضرورة البقاء بأمل قادر على الثبات على الحلم والحياة.
فهو يعتبر أنه “يحمل هما إنسانيا “وهذا الهم الإنساني هو أساس لكل أعماله وهو الموضوع الذي يعتمده لفك مدلولاته الخاصة التي تخدم فكرته وموقفه وما يريد إيصاله في هذه الملحمة البصرية التي يتنقل معها بين صعود وصمود وتكامل مع النقصان.
حيث أنه يتعامل مع ذلك النقصان باللون الذي يتحمّل دور الحكيم في البناء في التلازم مع الواقع والانتقال نحو الحلم لتنشيط اللغة البصرية التي تتجاوز مع المعاناة القهر بين الحرب والحصار لتخلق التكاملات التي تساعده على خلق مواسمه البصرية بتأقلم ندّي لها بما يضمن له أن يكون قادرا على مواجهة الطبيعة في كل احتمالاتها الصارخة من أجل البقاء.
ففي البناءات والتشكيلات والجدليات التي تنفعل مع التمادي اللوني وفي حركة الإيقاع الداخلي المندف بصخب يصنع تناغماته مع الحركة التراجيدية التي اختارها لها دون التماس مع الانفعال حتى لا يكون مبالغا في السوداوية لأنه يترك متنفسا للمتلقي كي لا يغرق معه في الدمار بقدر ما يبني داخله حالة وعي بأن الواقع قابل للإصلاح، فبقدر ما يخلق الجدال مع الواقع ومع المنطق والمعقول يفرط في التداخل معه باللون والحدة المتطرفة فيه بقدر ما يتجاوز عن كل التناقضات البصرية بين التجاذب والتصالح وبين الوحدة والتجمع والكثافة وكأن التعامل مع الحركة والأداء يستميل المشاهد دراميا أكثر بشكل يبالغ في الترويع الرمزي والبحث في مكامن الشخوص وانتشال أحاسيسها حتى يبتعد عن المباشرة ويلتقي مع الانسان في معاناته تلك التي تكبله بقهر وانكسار.
لأنه يرى أن المعاناة تختلف من حكاية لأخرى ومن سرد بصري لآخر ومن حالة لأخرى ولكنها تتشابه في السعي الإنساني للبحث عن الملاذ الآمن للحب والحياة، لذلك استثاره الانسان في الأرض والواقع في الحرب والمعاناة ليفككه من خلال التعاطي النفسي والاجتماعي والفني والثقافي فبين الرضوخ وبين التمرد يستثير أسامة دياب التكنيك لتجسيد الحكايا في مدها وجزرها ليكشف اللامرئي فيها ويزيح عنها غبارها وما تعثّرت به من رماد وهي تخطو خطواتها نحو الخلاص، لتتجلى كما هي البدايات الأولى التي تتعرى من كل أقنعتها وزيفها ودمارها.
إن السرد البصري الذي يقدمه دياب في أعماله لا يمكن إلا أن يشير له ويعبر عنه في الأسلوب الذي لا يشبه سواه خاصة في المرحلة الحالية في تمكن واضح من المساحة وفي تقدير متوازن لمفهوم الفراغ في اللوحة بين بساطة التعبير ومواجهة جريئة بتجريب الألوان وترويض الفرشاة وتخليصها من عنف الانحياز والتمهي مع جراجها النازفة، حيث استطاعت أن تخلق في اللوحات ألفة بين الوجوه في قربها وفي التواصل الحركي التعبيري بينها وبين مواقفها من واقعها ومن الأحداث، لتخلق اللوحة تلك الألفة الطبيعية وهي تحاكي غربة الأشياء التي تفصل الانسان عن وطنه في الوقت الذي يكون فيه أكثر تشبثا به.
يُخضع دياب فنه للتوافقات الإنسانية التي تتكامل مع قضيته فذلك الهم الذي يتمادى بتكاثفاته يخترقه في الإحساس والأسلوب في تشكيلات اللون واختيار الملامح التي تصنع ملاحمها من صراعها مع القهر في الحياة حيث صاغ شخصياته من حكاياتها فمن الشرق إلى أقصاه انتصر للأنثى في مدلولاتها التعبيرية عن الصمود والأرض عن الأنوثة والخصوبة والعناد والاستمرار متخذا من كل أنثى رمزية ومن كل قضية حلم يحاول به الحفاظ على الإنسانية من الاندثار بخصوبة مستمرة في عطائها فمن الأمل عبّر عن آلام ومعاناة أم عزيز وهي تبنى إصرارها وأمومتها والباكستانية مختار ماي حيث حمل التعبيرية بتواتر مباشر حسيا وذهنيا بالعلامة والتوحد معنويا مع الإنسانية ليجعل منهما أيقونة تحدّد إيقاع اللوحة والمفاهيم التي تثير الاستمرارية البصرية وتفتح الأفق أبعد للون والعمق دون أن يحيد عن عمق المسألة وكمية القهر الذي ارتحل بهما عبر الأزمنة والأمكنة وكأنه يساند شخوصه في رحلة نضالها ويرفع صوت اللون عاليا في سماء الحق والصمود ليتقمص الصمود ويترقب العودة للوطن ويمارس الانتظار بحكمة تستدرج الأسس معنويا وحسيا حتى تنتصر على الفقد والخراب رغم كل تلك التراكمات التي تنذر بالموت والظلم.
إن المميز في التجربة البصرية والفنية التي يخوضها دياب أنه لا يتوقف في منتصف الحدث ولا يقف عند نصف الموقف فهو يتكامل معه ليحدّد مكانه أسلوبيا ومكانته حسيا وذهنيا دون انفعال مفرط، إذ يخترق المساحات ويضاعف جهوده في تكثيف اللون ومشتقاته الباردة وتوظيف بعض الألوان الحارة لكسر موازينه المسطّحة على ملامس الرؤى ومنحنيات الحلم الصامد، فهو يرسم ببصره وبصيرته وإدراكه حيث يرى الموت موتا ويتمرد عليه بالحياة لأن النهايات المفزعة هي الفرع المنكسر في الحكاية المتجدّدة فلا يستسلم للخسارات والدمار بل ينتصر للحياة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply