هي ظلال تستدرج النور ورؤى تستكمل المعاني الغائبة في صمت المشهد الداكن، هي التحدي الصارخ رغم عنف الحكاية، تستلذ الذاكرة بسرد الألم دون أن تخدش التذكر أو تجلد فيه الفعل بل تضع نقاطها وتقاطعاتها على تلك الحكايات التي لم تحد أبدا عن مبادئ الانتظار والترقب والعودة إنها تجارب مبتكرة وتصورات تفتقد اللون تستميل الابداع في تصوراتها المبتكرة وهي تحمل لها خصوصياتها الرمزية والتعبيرية الموظّفة بقلق الرصاص والفحم والأكريليك جسّدتها التشكيلية الفلسطينية سامية حلبي.
سامية حلبي تشكيلية فلسطينية ولدت سنة 1936 بمدينة القدس، اقتلعت من أرضها وهجّرت مع عائلتها إلى لبنان استقرت ببيروت، تلقّت هناك تعليمها الابتدائي والثانوي لتتابع دراستها الأكاديميّة في اختصاص الفنون الجميلة بجامعتي أنديانا وميتشغان بالولايات المتحدة الأمريكية، عملت بعد تخرّجها أستاذة جامعيّة في اختصاصها لتجد نفسها في دائرة صراع ثقافي وحضاري مع الجماعات الصهيونية الأمريكية وهو ما أخضعها لتكوين مواقفها المقاومة واتباع طريقها للدفاع عن قضيّة وطنها وخوض حرب كان سلاحها فيها التعبير الفني الجمالي، فخسرت بسبب مواقفها الصريحة العادلة موقعها كمُدرّسة للفنون في العديد من الجامعات الأمريكية.
إن اختيار التعبير عن فلسطين القضية بكل تفاصيلها في أعمالها التعبيرية الغير ملونة وهي تستدرج القصص الراسخة في ذاكرة النكبة والمجازر والتهجير اعتبرته بمثابة التوثيق القادر على أن ينقل الحدث من الذاكرة وإليها وهذا بالنسبة لها ليس مجرد اختيار فني أو أسلوبي فحسب بل موقف بصري في حد ذاته كان بمثابة انتصار انساني لرواية تسرد الحقيقة كما هي مُعتمدة على توثيق الحدث كما حصل وكما شهدته وشاهدته.
تمتزج أعمال سامية حلبي بتراكمات الذاكرة والذكرى مع إحساسها العالي والمتوازن بالتاريخ والزمن وعلاقة كل ذلك بالأحداث التي سجلها التاريخ وفق مستويات لا متناهية بين الانعتاق التعبيري وتكاثف انفجار الحواس المتراكمة معا لتشكل في داخل حركة الشخوص وتفاعلها أحاسيس ملحمية قابلة للتجلي التعبيري في اللوحة حتى مع افتقارها للألوان إلا أنها مفعمة بالأفكار.
إن التعلّق التعبيري والتكاثف الحسي بين الموقف البصري وتفاعله مع الاحداث بخامة الفحم أو بقلم الرصاص مرتبط بفلسفة سامية حلبي البصرية المتعمّق في تعبيرية الضوء والظلال والنور والخطوط والتشكيل الذي يعالج مع الواقع حواسها ومع الفكرة ذاكرتها ومع الحنين وطنها، وبالتالي كانت الانفعالات صارخة في الحدث وعلاقة الشخوص متجاوبة مع ما أثارته في الفضاء حسب طبيعة الظلال التي سمحت لها بتكثيف التفاعل مع مفاهيم الفراغ ومداها الواسع المحمّل بالأفكار والتعابير والأحداث ما جعلها تستثير متعتها في ترويض العلامات البصرية حسب انفعالاتها أولا وحسب ما تحمله الشخوص وهي تحرّك صدمتها الصارخة وتخلق لذواتها علاقات متجددة مع وطن رغم حجم الألم والوجع البارز في كل قصة وحكاية وحدث راسخ في الذاكرة ومتغيّر في الواقع.
تحاول سامية حلبي حماية الرواية من الاندثار فهي تؤسس لكل تراكماتها باعتبارها مخزونا بصريا قابلا للتفاعل والحركة والاسترجاع والاستنطاق له شهوده الذين تنتشلهم من ضباب الصورة وغبار السنين ومن صدق الرواية نفسها وهي تحمل بداخلها التفاصيل وتدقّق في توظيفها وتلفت النظر لأبسط حركاتها وتسترجع معها توافقاتها المعنوية والحسية والفكرية والإنسانية.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply