كثيرا ما تحملنا قصص التجارب الفنية إلى خلق صلة وطيدة بين الفنان وعمله وخاماته بما يثير تفاصيلا ممتلئة بالبحث عن المعنى والمفهوم والإحساس وشغف التماهي معها وهو ما يضمن التواصل والاستمرارية في التوفيق بين تخليد الفكرة وتخليد الفنان ولعل هذه هي الرحلة هي ذاتها بسردياتها البصرية هي التي أسّست تفاصيلها الفنية والجمالية التشكيلية الأمريكية الراحلة مارلين أرون لتثير في التراب ضجيج البقاء وخلود التماهي منه وإليه.
رغم مرور سنتين على رحيلها المفاجئ لم ينته مشروعها الفني الذي انطلقت في تحميله وتحمّله حيث استمر بفلسفتها الجمالية مع طلبتها والقيّمين على معارضها إيمانا منه برسالتها الفنية التي قالت عنها “عملي الفني ينطلق ببناء طبقات تتعمق في الباطن وتطفو نحو السطح وهي الرحلة نحو المركز كما هي الطبيعة والأرض والتراب كما هي البداية التي تنتهي لتعيد البدء، نحن نبحث عن ذواتنا في السطح لتنتهي رحلتنا نحو الباطن وتلك مفارقة الاكتشاف.”
مارلين آرون فنانة شاملة اتخذت من اجتماع الفنون تنوعا ميّزها فهي كاتبة باحثة شاعرة ومؤدية جمعت كل تلك الوسائط مع المؤثرات الطبيعية والفنية فمهّدت من خلالها مسارها التشكيلي، فقد كرّست حياتها للبحث عن المفهوم التفاعل مع الأرض والتفتيش عن عناوين للبقاء في تفاصيل التراب لم تكن في منجزها الفني بمعزل عن ذاتها وانسانيتها بحثت في كلاسيكيات الفنون في حضارات الشعوب وخصوصيات الانتماء، فاستقت من الحداثة لأنها مرحلة بنت معها فكرة التمرد على الشكل من خلال دراساتها الاكاديمية التي تابعتها في هولاندا متأثرة بفلسفة الوجود الفني مع الطبيعة عند فان غوغ فبحثت في عوالمه وانتشلت زهوره الصفراء من أرضها لتتحمّل معها فكرة التراب كعنصر قادر على إنبات اللون وتفعيل حقيقته في الانسان معتمدة على فلسفة ما بعد الحداثة والفنون المعاصرة التي استجمعت فيها التركيب والأداء.
تخترق فلسفة مارلين الفنية حواجز الأزمنة وتفاصيل الترقب والانتظار من خلال السفر عبر الذاكرة نحو الطفولة ومواسم الطبيعة وما كان يطبع في ذهنها ويقع على صفحاتها الموثقة من خلال التراب وعناصره ومن خلال الأرض وتجاعيدها التي تتأثر بكل الأشياء المحكية والتي تجيد مارلين سردها بصريا وحركيا وأدائيا بتفعيل الخامات المضافة إلى المسطّحات لتتعمّق في أثرها.
تعمل مارلين في منشآتها بالإضافة إلى القطع المُثبتة على تحميل طبقات دقيقة فوق المسطّحات الممتلئة بالتراب واحتساب الذاكرة الوقت من خلالها لتصلها مع ذاكرتها وطفولتها ومرحها الشغوف باللحظات وبالتالي تراقب من خلالها الأرض وتتفاعل بتكامل بينها وبين الطبيعة فهي تعتمد على تراكم الأصوات من خلال تكثيف الخامات التي تظهر صوت الماء في حركة الزجاج والحجارة باعتماد التربة وقشور الكاكاو وكرات البلوط ورماد الخشب وشمع العسل والزيت والطلاء وألوان الأكريليك على القماش والخشب والأوراق والأغصان على شظايا البلور، فهي تتحرك وفقها بالجسد فتحدث ظلالا على الصخور وفق مدى تماثل أصواتها مع الأداء وتحريك الأرض التي جسّدتها في الخامات وهي تثير معها حركتها فتتنفس معها وتثير الحجارة ومن هنا يتبعثر العمل كما تتفاعل الطبيعة نفسها لتجسّد خلود الأرض في لوحات ثلاثية الابعاد.
يبدو النفس الشعري في تصورات مارلين الفنية والمفاهيمية واضحا في تناغمات المنجز فهي تفترش المسطحات حين تنشر التراب والحصى وكأنها تلقي قصيدة وتترنّم الإيقاع فيها وكأنها تتملّك الذاكرة بتلك الخامات وتعطي في توازناتها الحياة.
لم تكتف مارلين وهي تحيك رحلتها البصرية الباقية على أثرها الجمالي والفني بأن تفكّك ترتيب الصور في الطبيعة المطروحة في الفكرة على المسطح المشحون في التراب بل أثارت العاطفة والاحساس وهي تجمّع الأغصان والأوراق لتُبكي الغابة أو لتُفرحها وكأنها تدور معها في حركة دائرية أو تصعيدية وهي ترتّب رحيلها الذي انتصرت فيه بالفن وهي تراقص بروحانية مواسم الطبيعة ودورة الحياة في الكون.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply