لا يمكن العبور نحو أفق التعبير الذي تقدّمه العراقية الكردية ساكار سليمان دون أن تتركز في كل لحظاته علامات الانتماء والتوافق بين الوجود والانسان بين الكون والكيان في متابعات حسيّة تحمّلتها في عمق الخامة وتطويع الفراغ تلك القيم التي تعهّدتها لتُكسب أعمالها الحدّة والغموض المُشتهى في رحلة اقترفت من خلالها كل ما يليق بالتجريب والاستحداث والمواكبة التي ميّزتها في كل مشاركاتها الفنية الدولية وبالخصوص حضورها في بينالي البندقية لفنون ما بعد الحداثة 2017، الذي استطاع أن يشكّل علامة فارقة وحضورا مدهش التكوينات الفنية التي انبثقت من الشرق وتكاملت معه في تراكماتها الحسية والنفسية والذهنية والبصرية تعبيرا عن قضاياه ومعاناته من خلال البحث في الذاكرة والتصورات والتنوع بين الصدامات والاندماج والتحوّل والانفصال والانتماء والتوافق في جغرافيا متناقضة في تنوّعها.
هي عراقية كردية ولدت في السليمانية فنانة تشكيلية حاصلة على شهائد عليا في الفنون الجميلة من العراق ومن بريطانيا، اعتمدت التجريب الجمالي منهجا واثق البحث بين التشكيل والنحت صقلت تصورّاتها البصرية لتقتحم مرحلة جديدة ومعاصرة في فنون ما بعد الحداثة وتقنياتها التي دفعت المفهوم نحو التعبير البصري في الفيديو آرت والتركيب والاشتغال في الفراغ، وهو ما جعلها أكثر مواكبة وابتكارا وتعمّقا في مفاهيمها الإنسانية.
منذ بداياتها لم يكن الفن بالنسبة لها مجرّد تصوّر فرداني بقدر ما هو اطلاع ومواكبة وتبني للقضايا الإنسانية التي تخصّ منطقتها وحضورها فمن ذلك الواقعي ينبثق الاجتماعي والسياسي في عرف اليومي والعادات وفي حضور وأدوار الشخصيات وبالخصوص المرأة وعالمها المتناقض بين الحياة والموت بين الظهور والتخفي بين القبول والتكبيل ومحو الذات والكيان وهو ما كثيرا صوّرته ساكار في عدّة مفاهيم وعلامات اشتغلت عليها وطوّعت سوء بالاستذكار والحنين أو بالذاكرة والتاريخ لتعمل على توظيفات مختلفة الخامات استطاعت أن تتفرّد فيها بأسلوبها وطابعها التعبيري.
تعمل ساكار سليمان من خلال انتمائها الفني بين الحداثي وما بعد الحداثي على تطويع الخامة لتستنطق المفهوم والتركيب من خلال الاشتغال في الفراغ باعتبار أن المفاهيم تساعدها كي تجيد التحكم في تشكيل مخيّلتها لتنطلق معها أبعد في مستواها الأيقوني الذي توظّف به العلامات التعبيرية.
فهي في حالة بحث دائم وابتكار متواصل لم يقف عندها بل استبطن ذاكرتها وتاريخ محيطها وواقعها وانتماءها، فقد حاولت أن تقدّم الجديد وأن تعمل على فكرة الأرض والانتماء والوطن من خلال رمزية الأرض والمرأة وكيان الأنوثة في الأيقونات المُعبّرة وهو ما جعلها تبدأ تجربتها الجديدة مع “متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية-Farhat Art Museum” ضمن مشروع “مدن الخيم-الوطن الخيمة” حيث تشتغل حاليا على سلسلة من الأعمال الفنية لتُعبّر عن الوطن والحروب والتشرّد والتهجير وتُحوّل الفكرة بكل تفاصيلها وجزئياته من الأرض الى مربّع الخيمة.
فقد قدّمت عدّة مشاريع مُلفتة ومبهرة في علاماتها وصياغاتها مثل مشروع “حمّام كفري” حيث ابتكرت من فكرة الحمام التركي العثماني المقام في كفري بالسليمانية مفاهيم مختلفة عبّرت عن الصدامات بين الحضارة والسيطرة والانسان والتاريخ والبقاء بين العزلة والقوة والاستضعاف حيث اعتمدت على خامات مختلفة منها الفحم والتراب والخشب والقماش والخيوط لتعبّر عن الفردية التعبيرية أولا من خلال الشكل واللون والملمس والرائحة بتوظيف التعامل الحسي مع الفكرة والمفهوم حتى تثير الفرد المتلقي لاستبطان العمق في الفكرة البصرية ولعل هذا أكسبها التفرّد في خلق تكويناتها، خاصة وأنها تبتكر مساحات بيضاء لتكوّن تماسا واعيا من المفهوم إلى المتلقي ترتسم فيه تفاصيلها التعبيرية في تلك المفهومية من التوافق بين الفكرة والواقع والصدام والتعبير والانعكاس القادر على جعل المتلقي محتارا ومتسائلا ومعبّرا ومطوّرا لموازناته التشكيلية خاصة وأنها تسلّط الضوء على أماكن منسية وتنبش فيها الذاكرة وتستدرج من خلالها الذكرى فتتكوّن وتنسجم وتستطلع التوافقات الحسية التي تنفعل وتعبّر بدورها عن أفكارها الكامنة في تلك التوليفات الفنية والجمالية.
وهنا يتأسّس العمق الذي تكوّنه في أعمالها في الكثافة والتكثيف على مستوى الخطوط والتركيب والخامات التي تحاول توظيفها بداخل كل مساحة تشتغل عليها حيث تتعامل معها بين أخذ وردّ لوني بين التلطيف والمساحات البيضاء في الحواف التي تتهيّأ لتحمّل السطوح المعبّرة عن المفهوم رحلة مليئة بالتحدي والتمرّد تستنطق فيها العمق لتثير الحركة من خلالها خاصة وأنها تؤسّس التركيب بخلق الروابط بين التشكيل والترتيب على الأرضيات البيضاء التي تتداخل بالشكل الذي يُحدث وسائط بنيوية تتحرّك بشكل استمراري لتداوم التصعيد وتلتزم بالتعبير عن الصخب وفي نفس الوقت تسيطر على ذلك التصعيد لتهدّأ جماليات المنجز من حيث الأداء والترتيب الداخلي.
تتكامل التكوينات التي اختارتها ساكار سليمان لتعبّر عن الأبعاد الضوئية بين الأبيض والأسود تتكامل في التوظيف الرمزي لها خاصة في التعبير عن المرأة الأيقونة” المتماثلة بين الموجود والمخفي بين دور الفرح الذي خلقت من أجل والأسى الذي تتراكم عليه التكبيل المعقّد الذي يعيق حياتها، فالشكليات التي توظّفها في المساحات والتراكيب تختلف في تحويل عوالم المرأة الأيقونية من الجمال إلى الصدمة التي تكوّنها العلامات الحادة والصلبة كتوظيف علامة تقيّد المرأة في بيئتها بين المسامير والأغطية والأجساد المشكّلة في تعابيرها الأنثوية التي تبحث عن انعتاقها وعن ذاتها في تكاملات التوافق مع الحياة والأرض والاستمرارية وفعل الحياة الملوّن.
فهي تبدو مكبّلة في أرضها كما الوطن والانتماء لتبدو الصور قاسية نوعا ما في تعابيرها عن التصوّر المألوف لعالم الأنثى حيث ترتبط بعوالم من الألم على مستوى الفكر والتعبير والحضور والجسد مهما كان تنوعها العرقي تبقى في انتمائها صورة لجسد حتى أشياؤها التي تتفاعل لتكثيف جمالياتها تتصارع وتتناقض بين التجمّل والصدام والمنع بحواجز مسمارية.
تبدو التجربة التي تقدّمها ساكار مميّزة في تكثيف التجريب واندماجها مع الخامة التي بدورها تبدع في تطويع الفكرة وتوظيفها لتصبح جزئيات لها دورها في كل زاوية من زوايا المنجز الفني وعند كل تصوّر فهي تنطلق بعبثيّتها لتفكّك الفلسفة البصرية التي من خلالها تتراكم الحسيات في ذاكرة الأمكنة وأزمنتها العابرة والتوظيفية في التعبير المختلف عن الأرض التي بدورها تحيل على الانثى الباحثة دوما عن دورها الإنساني الحر.
Leave a Reply