للخط العربي علاقة تميّز حضوره في التعبير الفني التشكيلي وتتجاوزه نحو التعبير عن الذاكرة والحضور والتراث والواقع والحنين والدمج الجمالي بين الذات ومنطلقاتها الباحثة في الوجود.
فالعلاقة بين الفن والخط تبدأ من الحرف لتفرض قيما تقليدية الهندسة حديثة التقنيات والمواضيع ذات تأثير جمالي، له تميّزه في اللوحات التشكيلية.
فالخط كعنصر تشكيلي يتحمّل التجديد ويمتزج مع التوظيفات التي تجعله يتقمّص عدّة تشكلات فمن خلال الخيط والتطريز والتصميم على القماش تعبّر ملامحه عن عمق النص وفكرة البيت والقصيدة في الشعر الذي يتجاوز تصوراته التعبيرية عن الذات والذاكرة والهوية والانتماء والوطن والانسانية.
ولعل هذه التوظيفات هي التي اعتمدها الفنان والباحث الفلسطيني الدكتور فائق عويس من خلال تعامله مع الحرف والخط والنص العربي كشكل هوية جمالية تعبّر عن الوطن، ما قاده لتسخيره في اللوحة ودمجه مع القماش بمزج الشكل والمضمون والخروج به نحو مفاهيم تستفز المتلقي ببساطة بصرية وذهنية، بفكرة غارقة في الأرض والانتماء، فكان مشروع “معلقات درويش” التي تم تنفيذها بالتطريز اليدوي الفلسطيني والتي نفّذت على ثلاث مجموعات كانت الأولى لمتحف محمود درويش عرضت سنة 2014 والثانية لمتحف فرحات “الفن من أجل الإنسانية” والثالثة لمتحف “لمسة أمي”.
بدأ المشروع كفكرة خلود للانتماء الأول لرحم الأرض وحضن الأم، كأسلوب حيوي ثابت ومستمر عبر الأجيال، يعبّر عن البقاء والثبات مع كل حرف ومعنى وكل تلاحم بين الخط والقماش واللغة والمفاهيم الغارقة بين أياد تتوارث الجمال بشموخ يحاكي اللون والعمق ويجمع فلسطين الأرض الكاملة في الخيال والجمال والعمق والانتماء للذاكرة والتراب والحنين والأنين والواقع والأمل.
إن الجمع بين الشعر والتطريز بنى حالة فنية وتجددا ابتكاريّ الجماليات حاكها في تصوّر “المعلقات” كأيقونة عربية راسخة في عمق اللغة والابداع الذي تخوضه الكلمة لتؤسّس خلود الشعر فحمل من كل قصيدة بيتا وصمّمه مع قوة الخط العربي وحمّله جماليات التطريز ليعبّر في تجسيده البصري والجمالي عن حكايات وطن تشابك وجوده مع كل حرف وترابط مع كل خيط وقطعة قماش حملت مفاهيم التماسك والتجاذب رغم كل انحناء وانكسار وتشتت تسرب في الفكرة مستلهما واقعا وصورا وحنينا في كلمات وأبيات شعر لشاعر فلسطين “محمود درويش”.
“أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي” حمل هذا البيت الشعري التوافق بين الفكرة والمفهوم في تصورات عويس فبين الخامة والتمكين وبين التمازج والاندماج جمع فكرته وصمّم مشروعه بالتعاون الجمالي مع نساء فلسطينيات لتطريز “المعلقات” وتحويل الأبيات من رؤية الخط العربي إلى تشكّله البصري بحيوية وحركة ونضج تطريزي حمل فيه “الخط الكوفي” لمسات نساء فنانات كنّ أول من تعلّم الفن وعلّمه بصيغ الأرض والتراث وحكمتها بأسلوب فطري طبيعي جمالي التوظيف.
قدّم عويس معلقاته التي تكوّنت من 12 قطعة فنية مطرّزة ومصممة بالخط العربي على الحرير استغرق العمل على انجازها عاما وشاركت في تنفيذها لاجئات فلسطينيات من مخيم البقعة الفلسطيني في الأردن.
يعتبر عويس أن المجموعة هي تكريم لشاعر ووطن وهي إهداء لكل امرأة فلسطينية رسّخت الأرض والجمال واللون والأسلوب.
بدأ معه المشروع فكرة منذ سنة 2008 حين تنقل من الولايات المتحدة الامريكية إلى رام الله للقاء درويش وإهدائه ملصقا من جدارية ادوارد سعيد التي نفذّها في جامعة سان فرانسيسكو واعتمد فيها كلمات درويش “أنا من هناك أنا من هنا” ولكنه وقتها لم يلتقيه لأنه سافر لتلقي العلاج ولم ير اللوحة، فترسّخت لديه فكرة تكريم الوطن بالجمال الخالد الذي تبصره الروح في الابداع، فجمع أبيات من قصائد درويش وصمّمها بالخط العربي كلوحات حوّلها فيما بعد إلى معلقات مطرّزة لتخليد إبداع الشاعر في محاكاة الوطن وبعد رحيل والدة الفنان استنطق لديه الكثير من الحنين والبحث و الدمج لمفاهيم تخلّد الفكرة الإنسانية في الفن وتزامن الرؤية الراسخة في ذهن الخلود الثابت في الأرض فكرة وقصيدة فكانت القصيدة وكان التطريز الذي جمع الفكرة والحنين والذاكرة والابداع.
اختار فائق عويس عشر أبيات من قصائد لدرويش والتي اعتبرها من أجمل ما قيل في الشعر الحديث وهي
أنا لغتي وأنا معلقة، معلقتان، عشر، هذه لغتي
أثر الفراشة لا يرى، أثر الفراشة لا يزول
لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل
حبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل
أنا من هناك ولي ذكريات
أنا من هناك، أنا من هنا، ولست هناك ولست هنا
على هذه الأرض ما يستحق الحياة
أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي
نسيمك عنبر وأرضك سكر وأني أحبك أكثر
عيونك شوكة في القلب توجعني وأعبدها
سأصير يوماً طائراً وأسل من عدمي وجودي
لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي أبداً
وقد اعتبر عويس أن أكثر الجمل الشعرية التي ألهمته لتنفيذ فكرة مشروعه “المعلقات” هي “أنا لغتي.. أنا معلّقة.. معلقتان.. عشر..هذه لغتي” ومقطع “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي”.
اعتمد عويس لتنفيذ المعلّقات الخط الكوفي بهندسة مصممة على الثبات والترابط اذ اعتبره خطا قوي الترتيبات الهندسية طيّعا في تشابكاته الهندسية الجادة والراسخة والتي تتماثل لتتشكل كنماذج ساكنة بكلمات باقية ولغة لا تنتهي بل تترابط لتحيي المعنى.
فالحروف تتشابك في فضاء القطعة وتتشارك في معانيها البصرية اللطيفة الثابتة والكثيفة بهندساتها المزخرفة على المجاز الحاد والمطيع في تراتيبه وحركاته وسكونه في التشكيل والتنقيط في مقاماته وقيمه التشكيلية في مراودة الحروف واشتباكاتها وتكرارها وتدافعها فتتعانق بشكل دائري وبخطوط تعكس حالات من الفرح، فرغم كل تناقضات الحواس بين الشتات والتلاحم بين الانفصال والبقاء إلا أنها تظهر متلاحمة ومترابطة.
فالتشكل الهندسي في الخط الكوفي يساعد على تكرار الكلمة في عدّة جوانب واتجاهات لتشغل المساحات وتروّض الفراغات وتوفّق في استقامتها الشديدة وكسر حدّتها بجمالية الالتقاء في الزوايا وملئ جوانبها خاصة إذا ما تمّ التوفيق بين الخط واللون والاستفادة من سماكة ورقة الخطوط من خلال اللون ليبعث في العين فضول الغوص في المعنى والرسوخ في مجازاته.
اعتمد عويس على اللون الأحمر في التصميم الخاص بالمعلقات كإشارة إلى اللون المميز للثوب الفلسطيني ما يضمن ذاكرة التنقل بين الحنين والصورة بين البيت والحكمة بين الاصالة في الخط والثوب والتجدد في القصيدة والحفاظ على جدلياتها الحرفية وتصورات مجازها.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply