لا يقف اقتناص اللحظة من خلال التصوير الفوتوغرافي عند تلك اللحظة نفسها، بل يتجاوزها نحو اكسابها مفاهيم واقعية جديدة ومُحفزات بصرية تستطلع أفق استيعابها أبعد في التفسير، وهو ما تباين في الرمز واللغة البصرية التي تنوّعت بتفاصيلها مع الفوتوغرافيا وهي توثّق لبنان منذ السبعينات وتتراءى سريالية في توظيفات الصورة وما ورائيات المشاهد، فقد اخترقت الواقع وتفوّقت عليه ليصبح ذلك الواقع عنصر توكيد مشهدي لا أكثر.
غير أن الأحداث التي تواترت بصداماتها وهدوئها وصخبها على لبنان تصاعدت لتخلق معها الصورة المعاصرة رؤى جديدة تحمّلت في منطقها الفني الخصوصيات التي أبرزتها الصور التي رصدت الماضي وباتت مراحل تطويرها التي واكبت واقعها أبعد في التفصيلات المشهدية لتحوّل انتماءها نحو الواقعية المُفرطة تلك التي تجادلت دون أن تنفصل عن واقعها، وهو ما رصدته عدسات المصورين اللبنانيين أنفسهم الذين عاصروا المرحلتين وتفاعلوا معها بتلك التراكمات الحسية والتوافقات البصرية التي استدرجت منطق الصورة نحو العمل الفني التشكيلي الحر في معاناقاته للمعاني المتداخلة في التعبير الفني التشكيلي.
تحمل الصورة الفوتوغرافية في طيّاتها المشهدية الخيال البصري للمصور وتحوّل رغباته النفسية ومواقفه نحو اللحظة والواقع وهو ما يجادل بصرياتها الواقعية ليجعل منها رؤى جديدة لا تنفصل عن ذلك الواقع ولكن تتفوّق عليه لأن الصورة التي يضفيها على اللغة البصرية متعدّدة المفاهيم ومتجدّدة في بلاغتها الفنية والتعبيرية التي تتفاعل بمصداقية النقل وحسيّة التعبير وخصوصية اللحظة في توثيقها كذاكرة وجماليات تنفيذ لأنها وسيلة خاصة وتماس بين كل الفئات المتلقية لها.
فالمعنى والفكرة انعكاس له تأثيره عند التلاقي البصري وهو ما جعل تلك الصور في اللحظة المعاصرة ثرية بالمعاني وغنيّة بالدلالات الماورائية التي اعتبرها النقاد سريالية في التوافق اللامعقول رغم أنها من الواقع نفسه ولكن المصوّر اقتنصها برؤية مختلفة حسب موقفه في النقل البصري ورغبته في الإضاءة على زاوية معينة، وكأنها درجات توصيف لاواعية بين الكابوس والحلم وبين الألم والأمل الباقي.
فمن خلال التجربة التي خزّنها بنك الصورة اللبناني بمراحل واقع لبنان منذ الحرب الأهلية وتداعياتها إلى تفجير مرفأ بيروت ومخلفاته حملت الصورة الفوتوغرافية الأبعاد الأكثر عمقا بين المرحلتين فالأولى توافقت سرياليا والثانية امتدت عبر الواقعية المفرطة في تعابيرها وتماهيها مع الواقع، وهو ما يركّز على قوة وأهمية الصورة في صناعة الموقف الإنساني أولا والفن بدرجة أولى من خلال التفاعلات الحسية والانفعالات البصرية والعلامات ذات الدلالات المعبّرة جماليا حسب المفهوم في مقصد كل تلك التراكمات البصرية.
إن الفوتوغرافيا إذا ما وظّفناها توثيقيا قادرة على تحمّل الذاكرة والانطلاق بها أبعد من التجسيد المادي لأنها تخلق دلالاتها من تلك التوليفة المكثفة بالخصائص والمساحات التعبيرية في العناصر المتكاملة من الضوء واللون والظلال والمكملات المنساقة في الفضاء والملامح والأشكال التي تغمر مسطح اللوحة بعمق دلالي يحوّلها من مجرد مكمّلات إلى محرّكات ذات موقف بصري وجودي واقعي فني له مقاصده المتكاملة في عمق الصورة التي بدورها تخلق منافذ تواصل مع المتلقي حتى يسترجع من خلالها ذاته ويخترق حواجزها ليحرّر حواسها في استقباله لتلك الأحداث ومحاولة ترتيبها واستيعابها وكأنها أحداث جديدة.
فالمصوّر في هذه الحالة ليس مجرد ناقل للحدث بل فنان احترف القفز عبر الأزمنة ليعبّر عن النضج في الفكرة البصرية ومفاهيمها التي تبحث عن اقتناص الصورة بالأبعاد التشكيلية التي تثري الحركة بالمفهوم وتحرّك المفاهيم بالعلامات.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
بنك الصورة اللبناني
Leave a Reply