فن الجرافيتي Graffiti من التعبير الشارعي إلى التصنيف التشكيلي
الجمالية الصدامية مع الواقع وتصورات الموقف الفني والانساني
شكّل “بانكسي” وظهور رسومه على الجدران بأسلوبه وشخصيته الغامضة ظاهرة فنية لها مقاييسها الجمالية المبتكرة في التصورات المابعد حداثية وفكرتها المثيرة التي فعّلت درجات التعبير عن الواقع بأسلوب الجرافيتي.
هذا الفن الذي ومنذ بداياته تطوّر وتمادى في تشكيل نوع من الجدليات بين القبول والرفض من حيث فضاءاته وفكرته وتمرّده وعصيانه وغموض منجزيه ومدى جرأته التي جعلته مُنتظرا ومُحبّبا ومرفوضا ومُلاحقا في نفس الوقت حسب درجات التعبير ومدى فهمها وتعبيرها ومقاصدها الفردية والوجودية والانسانية.
Eddie Colla
فهذا الفن يُعتبر ميزة للفنون المعاصرة في شوارع المدن من خلال ما عكس ويعكس من تعبير عن واقعها وتفاصيلها وما يثيره من جدليات مختلفة المواقف الفنية والإنسانية خاصة وأنه خرج بالقيم الفنية من الفضاءات الخاصة والمتاحف ووصل بها إلى المدن والأحياء الشعبية ثم عاد إلى واجهاتها فنا معبّرا عن خصوصيات العلاقة بين الانسان ووجوده والفنون، وهو ما حقّق تواصله مع المتلقي بكل أصنافه الفكرية، ورغم أن بعض رسومات الجرافيتي في المدن والتي تكون من أشخاص غامضين أو غير مرخّص لهم تخلق نوعا من الرفض لعدّة أسباب قانونية، إلا أن هذا لا يُعمّم على كل منفذي هذا الفن ولا يُلغي الخصوصية الجمالية التي يتمتّع بها “الجرافيتي” وتصنيفه الكامل فنيا، حيث استطاع أن يُحقّق ذاته باختراقه لحدود الفكرة الجمالية في توظيفها وتصنيفها وأبعادها خاصة وأن هذا الأسلوب شهد مهارة وشهرة الكثير من الفنانين أمثال الأمريكي “باسكيات” الذي تُباع أعماله في أشهر مزادات الفنون وتٌعرض في متاحف الفنون المعاصرة في العالم والفنان “كاوس” الذي نفّذت صوره كأيقونات جمالية بخاماتها وتصوراتها التعبيرية “مسيو لوشا” الفرنسي الذي تحدى بحضوره الفني بلدية باريس وترك بصماته الجرافيتية عنصر تحدي للفنون الكلاسيكية بالقرب من متحف اللوفر.
بدأ التشكل الحديث والجدلي التصنيفي والفني لفكرة فنون الجارفيتي أو الرسم على الجدران في الولايات المتحدة الأمريكية وبالأخص في أحيائها المتمرّدة في منتصف السبعينات من القرن الماضي، عندما ارتبط بظهور موسيقى الهيب هوب وفن البوب آرت وتطوّر التقنيات التلوينية والخامات الجاهزة والمُركّبة للّون وتطوّر وسائل الإعلام حيث انتشر استخدام هذا الفن في الدعاية والاعلان، وقد كانت انطلاقته العالمية مع الفنانين “كونيس” و”فريدي” اللذان قدّما أول معرض فني لهما في روما سنة 1979 عندها تعرّف العالم على هذا الفن فانتشر استخدامه وتطوّر وأصبح وسيلة تعبير معاصرة لها خصوصياتها الجماهيرية والشعبية.
Eddie Colla
وبالتالي فإن التداول الفني والصيغ الجمالية اقترنت بالتطور العام في كل مظاهره وقطاعاته وأحداثه وتقنياته وهو ما ميّز تطوّر الأمكنة والمجتمع والثقافات والتبادل بينها وبالتالي انعكس على المدن وجدرانها وارتسم في زواياها وانعكس على متابعات الفنانين فكانت مواقفه مثل إضاءة للجانب المشروع في فكرة التعبير المعاصر للجرافيتي بين الأداء والتنفيذ تعبيرا عن الواقع والاقتصاد عن السياسة والقانون عن التعايش والعنصرية والتمييز عن الفنون وتطورها واحتكارها ورغباتها الحرة كما في تصورات “إيدي كولا” التي عبّرت عن رغبات التعايش الإنساني رغم اختلاف الجذور وفلسفة قبول الآخر التي تفرز العنف والتطرف وتخلق الفوضى الداخلية والعزلة التي تفجّرت في رسومات الجرافيتي التي كان يفرغها تعبيرا عن الواقع المروّع وتأثيراته، وهذه المواقف التي كان يعبُر بها من الخيال إلى الواقع كانت تستدرج حواسه نحو العمق الداكن في الألوان والتدرجات والكتابة الحادة والعشوائية في أعمال والبارزة في أعمال والباهتة في أعمال أخرى وكأنه يستوعب الشخصيات والحالات والملامح ويستنطق صمتها في فضاءاته الواسعة .
يتضمن الجرافيتي عدّة أنواع فهناك الجرافيتي المصوّر والجرافيتي المكتوب حيث يسعى لجلب الانتباه من خلال ما يحمل من رموز وألوان وإشارات تتشكّل حسب الموقف المقصود والدلالة الجمالية المعنويّة التي تستعرض القدرة والموهبة والحرفية التقنية في التعامل مع العناصر التشكيلية والمساحة والخامات مثل ألوان “الإسبراي” وتطبيق التفريغ والرسم المباشر والصخب الكامل لفكرة الألوان والتحوّل عبر عوالم الميديا والكارتون وتحويل وجهتها الدلالية من الخيال إلى الواقع كأن تعيش مفارقات التمييز والحروب وصراعات السياسة مثل ما عبّر السلفادوري “جيراردو غوميز” منذ غزو العراق وتهكّم بالكارتون وشخصياته على المواقف السياسية الأمريكية وصدامها مع العالم وتناقضات مجتمعها الاستهلاكي.
Gerardo Gomez
“حر مثل الفن” هكذا صنّف الفنان الأمريكي باسكيات مساره الجرافيتي وهو يصف ما كان ينجزه من أعمال ويحوّلها إلى جداريات، وهنا كانت التداخلات الحسية والنفسية الفنية قادرة على أن تحمل مواقفا وتمرّدا وعصيانا ورغبات حرة في الخروج من الهامش، وهنا حمل فنانو الجرافيتي الإصرار على الفعل والتعبير، وهذا ما حمّل فناني الجرافيتي رسائل استطاعت أن تنتقل من الشارع إلى المتاحف خاصة وأنهم جمعوا بين الفنون من حيث الرسم والمفهوم الموسيقى والكتابة والتصوير الفوتوغرافي، وهي نفس التجربة التي أثّرت بشكل واضح على بقية التجارب الفنية الأمريكية والعالمية وهي التي أفرزت فنانين لهم رؤاهم في قراءة الواقع الخاص والعام.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply