تعامل الفن التشكيلي مع المرأة ورمزياتها كأمثولة تعبير تحاكي التراث والجسد والتحرر والعبث بمعان تقارب بين الهوية والإيروتيكية والتجسيد والعلامة وسيميائياتها التعبيرية التي تغالب في ظاهرها الواقع والحلم والخيال والتمني والرغبة ومطالب التحرر.
أيمن عيسى
غير أن تعامل الفن مع المرأة كعنصر تكميلي للوحة أو تجميلي حمّل حضورها رتابة أو سطحية أو مجرّد نقل مباشر بلا مفاهيم تستشرف القراءة الذهنية والبصرية والجمالية، وقد استطاع بعض الفنانين أن يوجّهوا تلك التصورات الشكلية لتجاوز أبعادها التعبيرية من أجل خلق حضور مفاهيمي متكامل يخدم قضاياها في الحياة ويعبّر عن أفكارها بعمق وعن مطالبها بجماليات.
خالد ترقلي أبو الهول
فالفنون التي بالغت في مداها المتأثّر بالاستشراق أو في تصنيف رؤاها التعبيرية بتعريفات مألوفة التوظيف لعناصر اللوحة أو العمل الفني ككل وقعت في عملية إنجاز مبنية على سرد بصري لا يعطي المرأة ككيان مداها وفضاءها، ليتحمّل معها حضورها كمفهوم ومحتوى وكيان وتصوّر يحرّك بدوره الأسلوب في التصوير الأنثوي والمعاني الجدلية التي تخرج من تلك الرؤى الكلاسيكية التي قد تربط أحيانا حضور المرأة في اللوحة، لقياس مدى التحرر أو توجيه النظرة لقضاياها بشكل قد يكون عابرا أو مبالغا أحيانا.
علي حسون
يحتاج التعبير عن المرأة ككل متكامل اتخاذها مفهوما يحتوي اللوحة ويقود مسارها توازنا قادرا على التعبير الجمالي في الوقت الذي يحمل جرأة وتواصلا وفكرة وتجدّدا ينطلق بالمنجز الفني.
عبد الرحمن المزين
خاصة وأن رمزية المرأة في الفن التشكيلي المعاصر لم تنفصل عن قضاياها في الفكرة الفنية التشكيلية ومفاهيم التفاعل معها كعنصر تكاملي فهناك الكثير من التشكيليين المعاصرين حملوا المرأة كمفهوم في أعمالهم وحمّلوها وظيفتها الكاملة لتكون هي اللوحة والمنجز وتعبّر عن ذاتها وتصوراتها بكل الرمزيات والعناصر، وقد ساهم هذا في تقديم أعمال عرّت المجتمع وحلّت عن المرأة عقد الجسد والتفكك بين الأنوثة وجماليات الحضور وعمق التجلي في الحياة ووظيفة الكون والتكوين والإيحاء والتعبير خصوصا بتناول التابوهات وتحليلها وتفكيك رمزها ومدى الطرح المتفاعل مع جوانبه التي تخدم المرأة كقضية وجود ووطن وحياة.
فالتعامل الأيقوني مع المرأة لا يفصل رمزيتها عن التعبير عن الفكرة التشكيلية ولا عن حضورها الفاعل في التعبير الفني البصري كما في تجربة الفنان التشكيلي علي حسون الذي تعامل مع المرأة كتوظيف انساني بدمج بساطتها وإبداعها تجليات تلوّنها واختلافها المثير للطبيعة والتكوين وقضايا الهجرة والاندماج الغربي والشرقي وذلك بأسلوب “البوب آرت” المبني على كثافة اللون وزخرفاته ليحمل أفكارا عبّرت عن الفنون والاختلافات بين الأفكار الكلاسيكية والحداثية والمعاصرة والتلاقي الشرقي الغربي في المنظومة الثقافية والتعبير الذي يحتوي فكرة التواصل بإنسانية قادرة على ترميم جسور التلاقي وتجاوز الصدامات.
وفي تجربة خالد ترقلي أبو الهول حمل السرد البصري توظيف المرأة القضية وتفعيل دورها كأنثى الكيان وإيصال الفكرة رمزيا بدمجها وتكثيفها مع الخطوط والحروف واللون والملامح والأداء الذي تقمّص قضية المرأة في مزاج لوني كثيف وتفعيل سلوكي حمّل الجسد الحرف كإشارة للمنطقة وتفاصيل عاداتها وتقاليدها وانتماءاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية وتناقضاتها التي تتلاعب بدور وحضور المرأة بين السماح والمنع بين التكبيل والتحرير بين الانعتاق والتقييد كل ذلك ليسلّط موقفه من العنف ويوظّف التحكّم ليس في التفريق بين الحضور الانثوي والذكوري بل وحتى في تسليط الضوء على العنف الأنثوي الموجه على المرأة وتمييزها شكلا وحضورا وتعتيمها شخصية وكيانا، فمن خلال منجزه الفني حاول أبو الهول التركيز على فكرة إقصاء الجسد وتشتت المرأة في الفكرة بين الحق المنقوص والواجب المفروض، فعبّر بألوان مختلفة وركّز على دمجها على أساس اللون الأحمر الذي يجمع الحب والعنف والأسود الذي يعكس درجات حضور العتمة وانغلاق المنافذ والكبت، ليثير كيانها الأنثوي حتى يثور ضد العادات والمعتقدات والتهميش ويحقّق الحضور ويتحرّر من هواجسه ليصرخ رغم الكتمان والتخريس الذي يقصي تعبيراته وهو ما يفعّلها ليجبرها على نقد ذاتها ورفض التبعية.
إبراهيم الحميد
وفي أعمال التشكيلي أيمن عيسى تتميّز تجربته بمفاهيمها الجريئة وكسر حواجز العلامات المألوفة لحضور الأنثى الجمالي ولعالمها وملامح شكلها حيث ركّز على كيانها وجسدها الذي يشير في تصوراته لانبعاثات الكون والتكوين والحياة التي ترشح بالحب ورغبة الحياة الكاملة بامتلائها وحضورها كجسد كامل بعيدا عن تصنيفاته المثالية وعناصره المفقودة فهو يعبّر عن المرأة بجسد يرتكز على فكرة امتلاء وخصوبة تفجر أنوثتها متخذا موقفا بعيدا عن الموديلات المقولبة في الدعايات وعروض الأزياء تلك التي تضعها في سجن المقاييس وفي الشحوب والهزال والاستهلاك والتشيؤ ليرتقي إلى الجسد الفكرة لا الجسد المادة، بتوازن في اكتمالاته التي تجادل واقعا متسلّطا فمع كل لون وكل امتزاج يشارك الجسد كمفهوم يبني الحالة ويحاكيها ذهنيا وحسيا سواء من خلال حضورها المتفرد أو الجماعي فالحضور في التشكيل للمرأة يطغى على كل اللوحة ويندمج فيها بلا أي قيود.
إن التعامل مع الموقف التشكيلي بمفاهيمية في حضور المرأة يطرح قضاياها بجماليات ترتيب فكرتها تبني توافقا فنيا وفعليا يتناسب مع ما تمثّله المرأة من علامات فنية لتكون “امرأة لا أقل ولا أكثر” ولكن بتفاصيل الأرض والتراب والوطن والتكوين الوجود والفلسفة والمقاومة والانتماء فكلها تجتمع لتحاكيها بصريا في تعبيرات القضايا والالتزام كما في التجربة التشكيلية العراقية السورية والفلسطينية التي تنسب للمرأة دورها الرمزي المبني على الكامل في الأرض والتعبير عن الحق والانتماء والرحم الحقيقي للوطن والطبيعة والأسطورة حيث توظّف أساطير الانوثة وطقوس التجلي مع البيئة بما تحمله طبيعتها الخارقة وحواسها المتفاعلة بالحنين والمحبة والاحتواء.
إن حضور المرأة في الفن التشكيلي سواء كرمز أو أيقونة كتشكيل وعنصر أو ككيان متكامل يثير الفكرة ويحمّل المنجز جمالياته الكاملة التي تتفرّد في التعبير والتمازج والإثارة التي تلامس العاطفة الذهنية للمفاهيم وعمق معانيها وتمازجها مع كل الأساليب في تقنياتها وألوانها وأشكالها وهو ما حوّل دورها من مجرد ملهمة إلى كيان له حضوره الكامل والمتكامل.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply