من المألوف أن علاقة الطفل بالرسم والألوان والتعبير من خلالها، ارتبطت باللهو والمرح والاكتشاف للوجود والمحيط والطبيعة والحواس وهو ما يدفعه للفهم والتأثر بالمحيط والاطلاع على مواهبه ومدركاته وهذا أمر طبيعي ومحبّب بل وضروري لمتابعة ما يختلج بذاكرة هذا الطفل وما يدور في خواطره وعواطفه وذهنيّته وكيف يرى علاقاته وينخرط في الفعل.
ويشير علماء نفس الطفل أن للرسم إيجابياته العميقة في صقل ونمو شخصية الطفل ومدى اندماجه في نواته التكوينية من العائلة إلى المدرسة والمجتمع كما أن له تحفيزات لتنمية قدراته الخيالية والابداعية والاكتشافية التي من شأنها أن تخفّف انفعالاته وانعزاله كما يمكن للرسم أن يكون فضاء آمنا للطفل للتعبير عن مشاعره وعن غرابة ما يخطر بباله دون أن يكون محرجا أو متقوقعا، كما أنه بالرسم قادر على تحويل عناده وانعزاله إلى منافسة وإبداع ينمي قدراته على تذوّق الحس الجمالي وامتلاك القيم النبيلة.
* Zeinab Maky زينب مكي
غير أن التعبير يختلف لدى الطفل من العادي إلى الخارق حين يُفجّر حواسه تلك، لوصف ما تعرّض له أثناء الحروب ومخلّفاتها النفسية التي تحتاج دافعا لتبتعد به من التخزين إلى التعبير والرسم هنا وسيلة ومنفذ لفهم مدى التأثر وصداماتها الحسية الكثيفة.
Ali Borji علي برجي
وهو الأمر الذي دفع لقراءة بعض من رسومات أطفال الحرب حين تحوّل اللعب بالألوان في حياتهم اليومية المعتادة إلى درجة تعبير تجاوزت الفعل الباحث عن جمال خيالي خارق للأشياء لبحث إدراكي تعبيري عن الحوادث القاسية ومداها المأساوي المخزّن.
malak-saabملاك صعب
فرسومات الطفل ليست مجرّد خربشات لا معنى لها أو حالات انفعالية للتعبير عن عبث التسلية أو لتمضية الوقت لكنها رسومات ذات معنى وذات علامة بصرية وذات حضور تعبيري قد يكون من النضج الكامل أن تُقرأ وتُفهم، لأنها تعبّر عن عمق داخلي مُؤثر في نفوسهم وفيما يفكّرون فيه وما يشعرون به وأفق اندفاعهم الحسي نحو المستقبل ومبالغاتهم الحسية من الفزع والخوف.
Diana Dakik ديانا دقيق
فالألوان والخطوط والحركة والضغط والفراغ والتدريجات والجمود والعمق التي نعبّر عنها نحن كقارئي رسومات بوصفها علامات تكوينية للمنجز التشكيلي، يعبّر عنها الطفل بلغة بدائية وفطرية ساذجة في سطحها لا يسمّي مصطلحاتها بشكل تقني ولكنه ينفّذها بأساليب بعيدة المدى في عمقها الحسي والتعبيري فاللون مقصود والخط الذي يخترقه والملامح أو الشخوص وأحجامها وتشكلاتها قربها أو بعدها وانسجامها في المساحة أو نفورها، والأطر الزمكانية كلها تعبير داخلي يفسّر العالم الواسع وكيف يراه الطفل وكيف يخترقه ليصل إلى إرضاء نفسه وتخفيف هلعه وإعادة تجسيد ذاكرته.
nour-al-houda-irslan نور الهدى أرسلان
فالألوان لها انعكاسها على بعضها في الدرجات بين لون يطغى وآخر يختفي ليعبر عن مدى استجابة وعيه وعواطفه وتداخلاته الحسية والنفسية وكثافة الصخب الحيوي في عالمه.
فالتصور الأول الذي يصمّمه الطفل هو الذي يستشعر به مدى قبوله للحالة العامة والخاصة أو تداخلها ووصولها حد الفصل وهنا يكون الفارق، فالرسومات التي قدّمها الأطفال المتضررون من الحرب تعبّر عن مدى رسوخ المعاناة وعمق المشاهد التي أفزعتهم ليكون الرسم حقيقة لتخطيها من الواقع رغم مراراتها لأن الطفل لا يتعامل مع الأحداث والواقع بنفس ما يتعامل به الانسان الناضج وبالتالي فهو يخزّن تلك المشاهد بذهن حسي وعاطفي والرسوم تحوّل أحاسيسه من الإحباط والحزن إلى الأمل أو الجمود وهو ما يشدّ الانطباع الأول في درجة العنف أو الهدوء والسكون وهو ما يفسّر أيضا دور الألوان التي تأتي لتملأ بعشوائية الفراغ الحسي المبهم والمعلومات الخفيّة التي يسعى الطفل لإبقائها في ثنايا علاماته.
nour-abou-rayya نور أبو ريّا
ورغم أن للألوان دورها في تهدئة انفعالات الطفل والفوضى التي تثير صدامه بين الخيال المنفلت من سراب وضباب ووحشية الواقع، إلا أن الافراط في لون معيّن مثل الأحمر يحمل هو الآخر إشارات معيّنة تعبّر عن الصخب والعنف والموت والدم والقتل والأسلحة، كما الألوان المركبة مثل البني والأبعاد التي تثير السواد أو تختار عمقها أسودا لترسم عليه الرموز الوحشية مثل السلاح والدبابة وكأنها وحش يستفز المشهد من خيال حالم إلى كابوس معتم.
nisreen-dakdouk نسرين دكوك
غير أن الحالات هذه قد لا يعبّر عنها لون منفرد فقط بل قد تكون خليط ألوان فوضوية تجتاح الأمكنة وتلطّخها وتشوّه مساحة اللون الثاني وتدخل في مستواه لتعبّر عن خلل تركيبي مقصود.
فقد تتوجّه الذاكرة لدى الطفل من اللون إلى الأشخاص الذين تجمعهم به علاقة مثل العائلة والأصدقاء الحي الذي يعيش فيه المنزل أو غرفته الخاصة ليجسّدها محوّلا المشهد المعتاد من عائلة متماسكة إلى أشخاص مشتّتين وبالتالي تخترق العتمة والخطوط تلك العلاقة وتنهال عليها وكأنها تجلدها خاصة وأن الطفل ذكي في استقبال المشاهد وذاكرته حاضرة لتبسيطها في علاماته مثل الاحجام وملامح الوجه فالطفل يحفظ ويخزّن جيّدا ما يعيشه ويعبّر عنما يقال له بالصورة ويستدرج مدركاته بترتيبها.
Ali Khalifa علي خليفة
إن التعبير بالرسم لدى الأطفال في زمن الحروب والتشتّت ليس بالأمر الهيّن لأنه لا يأتي كموضوع مخطّط ومقصود بل هو اتباع لأثر المشهد الراسخ الذي يطبع الذاكرة الأولى للطفل الذي قد يخزّن أحاسيسه وقد يكتم التعبير عنها بعد صدمة المعاناة والتشرد وفقدان الأمان، لذلك نجده بدلا من أن يرسم الزهور والطبيعة وما يحب يبدأ برسم ما يكره ويخاف الأسلحة والدماء والموت.
بالرسم يخرج الطفل من صمته ويتواصل مجدّدا مع عالمه ومحيطه وهو من شأنه أن يصقل شخصيته الجديدة ويُعبّر عن مدى تخلّصه من صدمة الواقع ويخفّف من مشاهد الدمار والموت ما يضمن انتصاره على الصور وجرأته في إعادة تجسيدها رغم ما تحمله من وجع في أحاسيسه المُخزنة في ذاكرته لأن درجة وعيه لم تصل بعد حد فهم ما يدور حوله، أو الإجابة عن تساؤلاته حول كل ذلك الدمار والعنف لذلك فإن استرجاعها وإعادة رسمها من شأنه أن يخفّف الإحساس بالصدمة والخوف منها.
*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية: مجموعة أطفال لبنان حرب 2006
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply