كثيرا ما يقترن التأريخ للحركة السريالية انطلاقا من التكعيبية مرورا بالدادائية باعتبار أن الانحدار منها هو الذي كثّف الغرابة التعبيرية في سلسلة المفاهيم وتداخل الرمزيات والعلامات الغرائبية التي تمكّنت من خلال السريالية من الانفلات أبعد في الصورة وهو ما أتاح للفنانين في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة من الانعتاق بالمفاهيم واستيعاب النضج العلمي والتقني للتعبير عن الواقع المتطرف والمبالغ في أحداثه مع المكان والانسان والانتماء للفكرة التي تكوّن العلاقة بينهما.
رغم أن بعض النقاد في تعبيرهم يرون في التكعيبية والسريالية وجه الحداثة المشوّه وأثرا نفسيا للتمرد الفلسفي وحكمة الفوضى وافرازات الحروب خاصة وأنها تؤسّس لجماليات غير مألوفة وصور ماورائية تثير صورة القبح فيها من الانفعالات والتوترات، إلا أن القراءة الجمالية وهندسة الشكل وتفكيك الصور والملامح والأمكنة ومعالجة الفراغ والحجم والأبعاد وتفتيت الدوافع النفسية والوجودية تستدعي المقارنة والبحث في خصوصية كل أسلوب ونقاط التشابه والاختلاف الجمالي فيه ومنه وإليه وبالخصوص ذاكرة الانتماء وتوظيفاتها الرمزية من خلال الذات والإنسانية.
Juan Gris (1887 – 1927)
ظهرت المدرسة التكعيبية في بداية القرن الماضي وقد أطلق الناقد الفني الفرنسي لويس فوكسيل هذا المصطلح عليها باعتبار كل الأشكال الطبيعية والتي تأخذ مكان الملامح العادية والمألوفة تتشكّل مثل المكعبات وترتكز على الأشكال الهندسية لإنجاز العمل الفني، فالهندسة هي أصل الأجسام، ولعل التوافق الترتيبي والمرحلي في تكوين التصورات الجمالية للتكعيبية أكسبها الموقف الجمالي والمفاهيمي من الفن والانسان ومن الواقع خصوصا من خلال التنقل من التكعيبية الى التحليلية والتركيبية وهنا كانت الصياغات مختلفة بعض الشيء في الخطوط والخامات في التوظيف المباشر والاثارة وقد خلدت التكعيبية أعمالا إنسانيا مميّزة أبرزها أعمال بيكاسو.
*Andre Masson (1896 – 1987)
فمن خلال الرموز والأشكال الخطوط وانكسارتها كان التعبير عن الحالات والمزاج العنف والهدوء الوجود والبقاء والعبث في تصنيفات الواقع واحتمالاته وهو ما خلّدها كمدرسة فنية تمكّنت من أن تفتح منفذا تعبيريا للفنانين للابتكار خصوصا والاشتغال على الكتل بعبقرية الهندسة والتشكيل من خلالها فهي كأسلوب تعبيري قد يبدو محاصرا في قوالبه إلا أن فيها مرونة وتشكلا وتفرّدا استطاع أن يعبّر عن الإنسانية عن التصور الأبعد في الخيال بين المادة والفكرة في المكان والكون كجزء وانتماء يشكل العواطف في تصورات مشحونة بالتلاشي والحضور.
*Salah Abu Shandy
وقد استمرت التكعيبية في نماذجها المعاصرة معبّرة عن المواقف الإنسانية بين التشيؤ والمادة والمبالغة في أنسنه الشكل وأدلجة الحواس وتوظيف الذاكرة مع اللون ومحاورتها بشكل عقلاني صارم التجادل والاندفاع والجدية.
أما المدرسة السريالية فقد ظهرت وازدهرت في منتصف وأواخر القرن العشرين كتصوّر حديث للفن يعبّر عن التمازج الفلسفي والحسي بشكل تلقائي يتعمّد التوظيف النفسي والعامل اللاواعي حيث يطلق العنان للخيال والحلم لمحاكاة المواقف الفنية والتعبير من خلالها بجنون وفوضى وتصورات تتفوق حتى على الخيال لتلامس بجنونها اللامعقول في الصور واللون والحركة والرمز.
*Paul Wunderlich ( 1927-2010)
فهي تعبّر بشكل متداخل عن الحالات والمزاج والكوابيس الواقعية تعبّر كحركة عن فلسفة بصرية وجودية وعنما يختلج الإنسانية.
تعبيرها سخرية من واقع مشحون بالفروق والأحداث بالصخب والدمار الحروب والتفكك الاجتماعي، بالفلسفة وعلاقة الفرد بالمجموعة بالقلق والحيرة والخوف والتداعيات الباحثة عن منافذها في الكون.
ورغم أن كلا الأسلوبين له منطقه التوظيفي للمفاهيم والخامات والمواقف إلا أن المراحل التي اختلفت في الظهور وتدرجت في الفهم والقراءة سواء للتكعبية أوالسريالية جمعتها كأسلوب في المراحل المعاصرة ما خلق علاقة من التشابه الذهني بين الصورة وتلقيها أخرجتها بمستوى فني من تلك الصورة المعتادة كلاسيكيا على قيمها أشكالها كتلها مثالية تصوراتها وموازينها إلى المفهوم الخارق للعادة التشكيلية والجمالية ومن منطلق الإفهام إلى القراءة الماورائية.
*Adnan Yahya
تميّز الأسلوبان بالحرية والحركة بمراوغة الفراغات والكتل والمساحات وأوزانها وتداعيات انفعالاتها أخرجت المتلقي من حركة المشاهد المألوفة إلى الصور الجديدة التي وسّعت الخيال وحرّرت الموقف الذهني والعاطفي من الوجود والانسان والواقع والقضايا والفن بالانطلاق الحر بالحركة والتدفق المنساب بالتعبير.
* Jose Rodrigue
استطاع الأسلوبان أن يحطّما الاعتيادي في لغة التصور التشكيلي وتجريد مستويات القراءة والترتيب والتجرد من قيمها نحو بناء قيم جديدة وهو ما فعلته التكعيبية، أما السريالية فقد حطّمت الواقع وبالغت في مستوى رؤاه البصرية النفسية والانفعالية وحذفت من المعتاد ألفته وشكّلت فيه هواجس وكوابيس التي أصبحت لها دلالة ومعنى ورمزية وقراءة.
*John Corka Cornin
إن تصور الأعمال التي جرّدت الصور من وظيفتها وأنسنتها في الكون تجلت نتيجة التطورات التقنية والعلمية وحركتها الابتكارية التي استلهمتها من التقنيات مثل المكبر والأحجام الميكروسكوبية والتطور الزخرفي والهندسي والانفتاح على الثقافات الأسيوية والافريقية وفنونها، والسريالية بدورها تطورت بتطور علوم الانسان وفلسفة الوجود وعلم النفس وهو ما يفسّر انسياق رواد التكعيبية في تجريب السريالية باعتبار الترابط الفكري بي التيارين ومرونة التجريب.
*Albert Gleizes (1881 – 1953)
فالتكعيبية ترتبط بالأرض كمركز أما السريالية فهي تحليق لا مكاني في فضاء ممتد من الذاكرة إلى الحلم فالفكرة والمنجز.
وهنا نجد بعض الاعمال الملفتة في مراحلها المختلفة والتي خلقت لها مسارا جماليا وموقفا من الواقع والقضايا والإنسانية والتي استطاعت أن توافق بين العنصرين التقريبيين في تصور التكعيبية والسريالية من حيث مبدأ التواصل التشكيلي بين المادي والنفسي في تفتيت الوجود مثل تجربة الاسباني “خوان جري” أو تجربة الفلسطيني صالح أبو شندي في تصورات التكعيبية وانتقالات التكعيبية والتجريب التعبيري السريالي والتجريدي وتصورات الواقع والوجودي الهوية والانتماء بين واقعين وزمنين مختلفين.
أما في السريالية فنجد التجربة المبالغة في السريالية المركزة على التصور الإنساني في أعمال الألماني بول فاندرليشت والفلسطيني عدنان يحي في ملامحها الواقعية وفي نفس الوقت المثيرة للغرابة والسخرية والمعاناة والصبر بين احتمالات البقاء والموت بكآباتها التي تحاكي رغم افراطها التشكل الكابوسي مع الواقع.
*Derrick Gomez.
إن الأسلوبين يشكّلان عالما من الغرابة حدوثه الجمالي اللامعقول يبدو موزونا في تداخلاته وتأثيراته ولكنه استطاع التحرر والتنقل واستفزاز التساؤلات وترويض القراءات وتمازج المعاني فمن اختار التجريب في التكعيبية أو السريالية تمكّن من أن يبسط فكرته بتطرف حضورها دون أن يبترها ولا أن يستنقص من حواسه ولا أن يخون قاعدة التشكل البصري والاثارة الذهنية فرغم اختلاف الواقع الغربي مثلا والشرقي بقضاياه وأحداثه كان التجريب فيها متوافقا ومعبّرا رغم الفارق تمكّن بعض الفنانين العرب من اكتساب البصمة والخصوصية والانتماء والتجلي فلم يقع المنجز في المبالغة والتقليد بل كان متجليا بذاكرة أمكنته وروح انتمائه.
*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply