منذ عمل ديلاكروا “الحرية تقود الشعوب” وفكرة التعبير عن مفهوم الحرية تقتنص ذاكرة الأشياء وتتكاثف معها لتعبّر عن الكيان الإنساني وتناقضات الصدام والبقاء والصراع.
إذ يعدّ تمثال الحرية من أبرز الأيقونات الجمالية التي طالما اعتمدها الفنانون في تعابير الفنون التشكيلية الحديثة والمعاصرة سواء من خلال تجريد المفاهيم أو سريالية التصوّر الجمالي في خيال العلامة والدلالة من حيث التعبير عن الانسان والواقع وربطه بأحداث العالم والموقف من المجتمع والعولمة والسياسة والتفاعل مع فكرة الحرية في تفاصيلها، وهو ما يدفع كل فنان ليستدرجها كأيقونة في رمزياتها حسب واقعه وانتمائه ومدى تفعيل مواقفه الإنسانية.
فالبحث في تفاصيل اعتماد الفكرة الأيقونية في تمثال الحرية ليس مجرد فكرة ولكنه دلالة لمفهوم له تحديثاته الرمزية التي تطوّرت عبر المرحلة والزمن والفعل والموقف الجمالي والفني، أولا على مستوى التعبير عن تناقض الحرية ومدى تطبيقها على مستوى العالم، وثانيا على مستوى التغاضي عنها من حيث تطبيقها المزاجي حسب رغبة الأقوى، وبالتالي الانعكاس على رؤى الولايات المتحدة الأمريكية وواقعها العام وانعكاسها في العالم، فالتبادل العام لفكرة الحرية أصبح مُلطّخا بالدم ومُشوّها بالتهميش وجامدا بلا روح.
وهو ما استفز الكثير من الفنانين للانعتاق من كل ذلك للتعبير عنها وطرح مواقفهم بحسب كل تجربة وتجديدها الجمالي، فأمام كل ذلك يقف الفن باحثا عن دوافع التعبير واشكالياته التي تستفزها الإنسانية الهشة والاضطهاد الطاغي الذي يغتاله العنف في مضامينه من حيث التماهي مع التناقضات، فالعمل الفني يحمل في مشهدياته الخيال مُشبعا بالحقيقة والجمال والواقع من أجل تحويل آلام الإنسانية إلى مفاهيم.
فقد أصبحت الصورة تلاحق مشهد النوايا بين الظاهر والباطن وترسم الحقيقة التي تترصد لها العوامل اللاانسانية المغلّفة فتمثال الحرية بات أيقونة تهكمية تشوبها الكثير من المفاهيم التحديثية والتفعيلية في ترجمة مشاعر الترابط الإنساني وتفكك القوى وهذا ما استطاع خلق هوّة وفارق في التعبير بحيث أصبحت هذه الرمزية علامة للظلم وللإشارة لتمكّن الأقوى من خرق قانون الانتماء للإنسانية.
إن التجارب الفنية التي رصدت تفاصيل التعبير عن الانسان في أمثولة الحرية ورمزيتها من خلال تمثال الحرية اعتبرت مختلفة من حيث التنفيذ ولكنها تتفق على الإشارة لتلك التناقضات الصدامية، فالفكرة من التمثال تكثيف المعنى والإشارة إلى رمزية الحرية في تأسيسها الدلالي ومقارنتها مع العنف والتمييز والاعتداء على الانسان والأوطان في ظاهر الواقع.
فالتجربة التي قدّمها الأمريكي بيتر ماكس تأثّرت بواقع السياسة الأمريكية وبتطوّر المجتمع والوقائع اليومية التي تأثرت بدورها بالاستهلاك فقد عبّر عن الحرية من وجهة نظر جسّدها فنيا في التضحية والتعايش بعيدا عن الحروب لذلك قام بتلطيخ التمثال بالألوان بعد نحت المجسّم الأيقوني للتمثال فالأسلوب المبالغ في سخرياته حاول اقتلاع المعنى من التكبيل المُبهم وتفكيك الأغلال من رؤاها الضبابية التي تحاول التماهي بالحرية مع الإقصاء والتهميش، لذلك حمل التمازج اللوني الطبيعة البشرية المُختلفة والتنوع الذي لابدّ وأن يفرض الاندماج والتعايش وقبول الآخر دون صدامات.
أما بسام كيرلس النحات اللبناني فقد حمل الموقف المتفاعل مع الواقع وفكرة خذلان الحرية في مفاهيمها وخذلان سيدة الحرية التي باتت في جمودها المتراكم تعاني من تشوّهاتها المنفعلة في ضغوط الحروب وانعدام التعايش والتفكك البشري والثقوب التي خرقتها كل تلك المُخلّفات لتصل إلى تدمير شوّه التمثال والرمز في تحطيم بارز في كيانها حمل فيه الفظاعة في تجريداتها الحسية.
فالتمثال الذي ابتكر من خلاله كيرلس مفاهيمه التعبيرية لم يقف عند ظاهرة الحرية بل حمل معناها الذي انتاب العالم سواء في الحجر الصحي المعاش الذي قيّد الحرية الفردية أو في الدمار الذي تم افتعاله وبناء فكره الهادم بثبات متناقض تأسس على الحطام ليكون المنجز مهدّما ومتداعيا ولكنه يحاول أن يتماسك أو يتظاهر بالبقاء والاستمرارية وإثبات رغبة البقاء الحر رغم كل التشويه.
إن اللغة الجمالية الفنية تحمل الكثير من التفاصيل في معانيها التي تعبّر عنها من خلال الرموز ومن خلال الدلالات وهو ما يتمّ تفكيكه في استحداثات المعنى وتراكماته من خلال البحث في التصورات الجمالية لفكرة الحرية والصدام من خلال الرموز التي طبعت تلك الأفكار والقيم، فطبيعة الشرقي في التعبير عن صورة الحرية وتمثالها تختلف عن طبيعة الغربي والأمريكي بالتحديد لأنها انعكاس حالات وحروب استطاعت أن تثير تلك الحالات الصدامية التي تخلقها الفكرة العامة والواقعية التعبيرية بين الشرق والغرب.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply