إن الظلال والألوان والفراغ والخيال هي انعكاس التأمل الذهني لمدى اندماج تلك العناصر حتى تشكّل الرؤية وتتحرّر منها نحو تكويناتها ذات التوليفات المتداخلة والفوضى التي تراقب ذاتها في الترتيب والصخب الذي يتفجّر صمته حركة ولونا وتلاحما خانقا مرّة ومنفعلا بعواطفه مرات إنها خصوصية التجربة التشكيلية التي يقدّمها التشكيلي الياباني المقيم بالولايات المتحدة الامريكية “تاكيشي سوجيموتو” والتي تدعو للتأمل وتستفز الحواس لتنتشر مع ما يثيره التعبير من ثراء وتكوّن.
فالتأمل الذي يقترحه تاكيشي لا يتعدّى مجرد الفعل بل يخلق طاقة تفكير داخلية لا تهدأ في حركتها وصراعها وامتدادها وهو ما يفرض تلك السلطة للون وتداخل درجاته وهي تصارع الفضاء والفراغات لتحتل مساحاتها وتتخلّلها بل وتشعرها بذلك العمق المتبادل وتلك الحركة الصاعدة نحو توافقات الترتيب الجمالي الذي تفرضه فلسفته البصرية.
رغم أن سوجيموتو تأثّر بالتصور الغربي وأسلوبه في صناعة منجزه الفني إلا أنه لم ينفصل عن تفاصيل انتمائه الياباني ثقافة وحكمة تتكئ على اعتباراتها التصويرية المرتبطة بالطبيعة الأمكنة والأخيلة والخرافة المحكية في عمق الذات البشرية.
تترابط الفكرة وصورها واحتمالاتها التشكيلية لتتكامل في التصوّر مع العدمية التي يوقّعها في أعماله المختلفة حسب مراحلها إذ يطرحها في الشكل مع فرض قدراته التطويعية في التقنية التي قد تُلغي ذلك الشكل وتحافظ على توافقه المادي مع الاحجام اللونية التي تحاول طرح ذاتها في الفراغ محرّكة المساحة بالإيحاءات التكوينية التي تحاكي الوجود بفلسفتها البصرية.
فالشكل الجسدي في مجسم التكوين التجريدي الذي اختار سوجيموتو توظيفه تفاعل مع لغة اللون بإظهاره في الكتل المتلاحمة والمتصادمة في توازنات التحامها الصاعد والمتحرّك من تفاعلات الأمكنة واحتمالات الفصل الذي تحمّل تطويعات اللون في الحجم والشكل والحركة والظل والتداعي والسقوط والنهوض والاندفاع نحو الفراغات.
إن التأمل في تلك التكوينات والعناصر والشكل والهندسات وتداخلاتها بين الدوائر والحركة واللون والتدريج، لا يقف عند تشكيل الفكرة الأولى بل يطرح إشكاليات فهمية تبحث عن التواصل الداخلي والحسي من خلال توصيف الحالات والمشاعر عند كل توظيف فكأنه يخترق الجسد ويجرّده من عنصر الصورة ليتماهى أبعد في الرمز وليخترق اللامرئي بالفكرة والحضور، فالتعدّد اللوني والتوظيف الرمزي لتوصيف الحالات يجعل العمل في استمرارية دائمة فكأنه يبحث عن عنصر التكوّن الأول في الوجود بتفاعل لا يقل غرابة ولا تفرّعا من حيث الفكرة الجمالية اللامألوفة.
إن التجربة التي جسّدها تاكيشي لا تخلو من طرح إشكاليات فلسفية حفرتها الخبرة وسنوات من المعايشة المزدوجة للامكنة بين الثبات والترحال عبر الذاكرة ما مكّنه من تفعيل بحثه في المدركات الإنسانية والتقارب معها في القيمة الوجودية فهو يحدّد ماهية الفعل الفني بتوصيف اللون والاشتغال على تدرجاته الحسية وتداخلاتها الخطيّة الكثيفة التي تندفع بعمق تبادلي مع الظل والفراغ بهندسة المساحات.
تثير الأعمال عند رؤيتها لفوضى داخلية الغرابة مختلفة الالتقاء بين ذاكرة وتذكر بين إحساس وفكرة فكأنها ترصد ذاته وتتحرّر منها سيميائيا وفكريا من خلال حركتها، انطلاقا منها، وهو ما يحدّد باللون عوالمه المرئية والغامضة ويرصدها ويتبع أثرها، وهنا يستمد تاكيشي فلسفته من عوالمه الخارجية ليعبّر عن عمقه الداخلي ثم يعود في نفس الحلقة بحكمة في اللون وتبصر في الإنجاز والعرض والأداء في مساحات اللوحة.
إن علاقة تاكيشي بالخط واللون والمساحة هي علاقة أسلوبية تحاكي القدرة الجمالية التي يخترق بها مستوى الفرض الذهني للحاسة التشكيلية فهو ينفرد بها ليستدرجها نحو قدراته التطويعية ليفرض عليها الشكل ويلقي بها في معركة التلاحم وصدام الأشكال اللونية التي تثير بإماءاتها العلامة الذهنية بالخيال لتوثيق المشاهد باعتماد الابتكار الأسلوبي للتعبير عن الوجود بفلسفة بصريّة تحرر الحواس داخليا.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply