تجربة التشكيلي فاروق لمبز Farouq Lambz
تأثير الهندسة والزخرف تطور الحركة الجمالية للخط العربي
“عندما توجّهت للخط لم أقصد أن أكون خطّاطا وإنما توجّهت إليه كرسّام”، للرسام حكمته العميقة التي تدفعه للتجريب وتختار له مسارات النفاذ للجمال اللامكتشف في ثنايا التعبير التشكيلي والبحث عن التفرّد الأسلوبي، إنها الحكمة الناضجة بالخبرة والمعرفة والبحث والتحدي في اختيار مجال دقيق بجمالياته وعبقري لتوافقاته الخاضعة للهندسة والفضاء للمعنى والمجاز لغموض الرمز وحيرة القراءة.
إنها الأساسيات التي قادت الفنان التشكيلي الأردني فاروق لمبز لعالم الحرف واللغة والتعبير من خلالها عن الذاتية الجمالية التي مكّنته من أن يُدخل الحرف على حركة فرشاته ويراقص به ألوانه بنورها وظلالها على إيقاع فني بناه في مساحات أخضعها لهندسات اللغة والمعنى والتعبير والزخرف وإيقاع الحركة الروحانية التي تتشكّل مع ألوانه وتتصاعد مع الخطوط والأشكال لبناء الزخرفة التي يبحث عن مجاراتها لاكتساب أبعاد ما ورائيّة التكوين، تتجرّد من عناصرها التزيينية لتتمازج مع الطبيعة في مواسمها وتفتح منافذها التعبيرية على مساحات وأماكن جديدة وصور ماورائية تجادل بنضجها الملون عراقة الخط ومرونة الحرف.
والتأمل فيما قدّمه ويقدّمه فاروق لمبز من مراحل نضج تكويني يثير لغة البحث في مدى التوافق بين عمق ما هو تشكيلي وعراقة ما هو حروفي ما يستفز للتعمق أكثر فيما يندمج مع الخط واللون والظلال والنور، فالفنان في طبيعة تكويناته الحسية والذهنية يرتكز على تقنية تتميّز في الأداء الإيقاعي المتحرّك وتوليفاتها فهي تريح في عمقها وتستثير حواس البحث في تدافعاتها المتصاعدة والمتماسكة والمترابطة مع صيغ المعنى وتحوّلات المزاج وعلامات المجاز وهذه التوليفة تحمله لتكثيف الصيغ ومزج الحروف مع الألوان والخطوط بتداخلاتها والتحامها.
فالتقنية تبدأ بتثبيت الحرف على الورق يدويا ليتطابق الفراغ العميق كعنصر أساسي مع تشكلاته ومع طبقاته التي تضيف للأبعاد تناسقا وتكاملا يستدرج تلك العناصر للاندماج لتبدو أكثر تلقائية، فالحرف بترابطه مع اللون بانشغاله بالمعنى في ثراء حضوره، وبالخط في توازنه الشرقي المشرق بسلاسة خطّ الثلث ومرونته وتراكيبه وحدّة أطرافه حيث يتماسك ويتفاعل ويتناسق ليبدو مألوفا كلاسيكيا رغم معاصرته.
فهو يدرك أن التراث غني وحضوره باق في التراكيب الأولى التي يجب أن تحيل على عوالمه بزخرفها وهندستها وطبيعتها وألوانها لتمنح اللغة البصرية أطرا تجيد استدراج المتلقي بالحنين والذاكرة وبالعمق والحضارة وكذلك بروحانيات تستنطق العصر وإيقاع الواقع.
فالهوية ارتكاز حقيقي ومبدأ أساسي للتغيير والخط العربي له روحه المتجدّدة التي كانت سبب استحداث وتحويل مؤثّر في الفنون الحديثة والمعاصرة لتدرك قيمها من خطوط وبناء واحتواء ومساحة وفلسفة فراغ وأشكال وألوان، في الربط الذهني بين الصورة والمعنى في التشكيل وبين ما يُرى وماورائيّاته وهو ما يستفز حواس الذهن المنطلقة في بحثها وهي تخضع لمغريات اللون ودرجاته وتطويقه وانفلاته في تخفيه وظهوره في الاعمال الحروفية التي يقدّمها فاروق لمبز.
للألوان التي يدمجها ويكثّفها ميزتها في أعمال لمبز فهي تمارس اندفاعها بعفوية وهي تحاكي الحرف والمعنى في تشكيلها للأبعاد وتدريجها الداخلي وفي مفاجأتها لفراغ المساحات بجدوى التعبير الحقيقي والمقصود من مساحاتها التي تكسر طبيعة التدرج اللوني في مداه الحاضر والمتخفّي مثل اقتحام اللون الأصفر وإشعاعه أو اللون الأحمر وحرارته للمدى الأزرق السابح في فضاء اللوحة أو لكثافة اللون الأخضر الذي يتبادل الحضور ويجادله مع الحروف، وهو ما يُكسب التقنية التشكيلية العمق من خلال توحيد اللون ظاهرا وتفعيله مع بقية الألوان حركة، كما أن الظلال والنور لها أيضا حيّويّتها التي تثير العناصر ما يمنح الأبعاد تصوّرات المساحة بما يضمن التخلّص من وهم الفضاء وبالتالي المحاكاة الكاملة للحركة والايقاع في التحوّل المرئي والتصور الماورائي لفكرة الحرف واللون والمعنى.
ما يقدّمه فاروق لمبز في تكويناته التشكيلية المستوحاة من الحركة النشطة يعتمد بأساسه على التشابك واختراق المساحة وتوظيف التواصل الروحاني مع الطبيعة والتكوين بخلق فلسفة بصرية قائمة بذاتها لها فهمها العميق لجماليات التناغم الجمالي بطابعه التشكيلي وتصوراته.
فبهذا الحضور الروحاني يتجاوز اللوحة الحروفية والزخرفة التقليدية بأسلوب أنيق لا ينفصل عنها بل يجعل نصوصه البصرية مفتوحة في فضاءها وتوجهّه في اتجاهاتها بحيث يمنح اللون شفافية واندماجا خاصة وهو يروّض الألوان الباردة ويفتح من خلالها أفقا آخر لفضاء حالم وعميق.
يرتكز لمبز على التصورات اللونية ويقترن في تداخلاتها مع الجدليات الزخرفية وتدافعات المعاني التي تعانق بحريّتها فضاءها دون أن تفرض خللا بالحركة بين الحروف والمساحة والتشكلات اللونية وهي تمارس حرية حركتها وحرية اختيار اتجاهاتها لتتدفق بين الأشكال الهندسية وهي تفرض حالاتها دون أن يختلّ توازنها.
وهذا الأسلوب يحيل على الدوران اللامنتهي الذي يفرض علاقة بين الخطوط والأشكال في الفضاء اللوني وهو يتحكّم في النور والعتمة والسطوع، فكثافة ثنائيّة اللون تحافظ على التوازن الشكلي والإيقاعي بتوظيف الزمان والمكان في تواترات فكرة الحضارة وتاريخ التجديد العريق الذي يخضع لمنطق التوظيف الجمالي للخط والحرف في تركيبة اللوحة المعاصرة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply