يحمل كل عمل فني خصوصية عميقة بتجليات تعبيرية تتحوّل بتشكّلاتها الشخصية لتروّض المعاني في كل لوحة ولتعوّض الطاقة الكثيفة والمشحونة بالمواقف، بمفاهيم لها دلالاتها ومساراتها وانتماؤها الأساسي لصانعها الذي يتفاعل معها بدوره بدقّة وترتيب حتى يمتثل لمساراتها ويسترجع ذاته المنجزة والمبتكرة بتجريبها.
وهنا تقع عين المتأمل على تجارب مختلفة تمكّنت من خلق بصمة التعبير في التجريد من خلال الجمع بينهما بالارتكاز على محاكاة اللون بتعتيقه وتفعيله وتحويله إلى عنصر له دوره في السرد البصري واتباع الأثر الجمالي المُحاكي للمكان والزمان والحركة بينهما، وهو المسار المُختلط بألوانه التي اختارتها الأمريكية “فيه رويز” لتخلق لها بصمة جمالية تعبيرية كثيفة منذ بداية تجربتها في الثمانينات إلى الفترة الحالية التي لم تخل من التجريب على مستوى الخامة واللون والعناصر التنفيذية والأداء الشامل لتعكس مواقفها من الواقع والوجود والطبيعة والتغيير والانسانية وحركة التطوّر الفني الحديثة.
تبدو أعمالها في أول تماس بصري معها مثل تصوّرات جغرافية أو تأملات بدائية خشنة في ملمسها المُتخيّل وكثيفة وكأنها رُصدت بشكل غير اعتيادي تخلّت فيه عن الوساطة بينها وبين الأساسيات التلوينية مثل الفرشاة لتطبع بصمتها وحركتها ولتختبر مهارتها الفنيّة في التوغل بين المساحات والزوايا حسب مزاجها الحسي لرصد تحسّسها من التحوّلات الطبيعة والوجودية في تماثل الكون الذي بدا في تسريب الألوان وتداخلاتها، حيث لم تخل تكويناتها من الفوضى وهي تتبع خطواتها العابثة من أجل التوصّل إلى المفهوم واتباعه نحو التنسيق الذي ترغب في استدراجه لتصل إلى غاياتها التجريبية من خلاله.
حاولت “رويز” أن تحاكي فجوة المساحة باللون وحجم حضوره الضاغط على القيمة التعبيرية في تجريد الصور والأفكار التي توارت في ماورائياتها وهي تحاول أن تهرب من شتات الذاكرة لتستنطق الأمكنة المُخزّنة في ذاكرتها، فهي تحاول أن تمنح لذاتها حريّة التعبير دون أن تتصادم مع المتلقي في تصوراته الانطباعية، فهي تهبه فرصة مُمتدة لإكمال رحلة البحث في الألوان التي تلغي حالة الفراغ الذهني بصدمة الكثافة البصرية.
يحمل لها تعمّقها في التجريد التعبيري انطلاقا حرا نحو أفق الفوضى وما تثيره فيها وهي تغمرها في صدامات البياض الحسي للوحاتها وتتعمّد ترتيبه من خلال اللون حتى لا يكون مُبهما في ظل تلك الفوضى لترسم حضورها الحركي وتعطيه دور الوسيط بين صراعاتها الشخصية وتصوراتها الفنية على القماش التي تجرّدها على الأسطح وتعمّقها على المفاهيم حتى تربك الألوان وتستفزها نحو الرضوخ لأوهامها الحسية وفوضاها المعقولة في الترتيب.
توظّف “فيه رويز” الأسلوب التعبيري بتمازج معترف بتفاصيل الواقع ومدى اندماج الذات فيه من حيث الحرص على التوازن في المعاني والمفاهيم والتشكيل المُكتمل في تفاصيله حتى يصل الفضاءات المُتخيّلة مع الواقع التنفيذي للعمل الفني من خلال التكوينات وعلاقتها العميقة بالمسطّح.
فالرموز التي تشتغل عليها تُثير اللون ليتمادى في حضوره وتداخله وتعاصفه المُتصادم مع بقية الألوان التي تقترحها كجدليات مقصودة كما هو الأسلوب الأمريكي الذي طوّر التعبير في التجريد وانفلت أبعد في الحكم على الصور وترميزها بالخطوط والنقاط والأشكال والمساحات وحدودها المسيّجة والمفتوحة حسب درجات التلقي النفسي لها ومدى التعبير العام عنها ولعل هذا الأسلوب نجح في خلق روح للون ودور للفراغ وحكمة للمساحة التي احتوت ملامح التعبيرية من خصوصيات التجريد.
فالأسلوب ليس مُبهما ولا مُبالغا بل هو انحسار ذهني عاطفي لواقع ضبابي يتصارع مع التغيير ومبادئ الحرية في الفن وهذا التوجّه حمل حركة ذات إيقاع أثّر على المفهوم والجسد والذهن والخامات وأطرها وانفعالاتها لتتمكّن من إخراج الفكرة من جمودها نحو الفضاءات الجمالية المشحونة بالألوان والمعاني في صمت صاخب وهدوء تفرضه حكمة استدراج المتلقي أبعد في ماورائيات الصور وتفسيرها الانفعالي الأول والذهني المستنتج بصريا.
إن الحكمة في حركة الأسلوب التعبيري التجريدي التي تفرضها “رويز” تستنطق المفهوم في اللوحة وتثيره أبعد في التصادم والبحث في الوصول إلى أرض أو مساحة لامتوقّعة في العالم الجمالي المستحدث القادر على تفسير المشاعر الوجودية والأفكار البصرية، ومداها الفهمي.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply