واكب تيار الاستشراق في الفنون التطوّر الفكري والايديولوجي والمفهوم العام لتلاقي الحضارات حيث أصبحت له تصوّرات جدلية جديدة تفاعلت مع الانفتاح التقني والتواصل السهل والتنقل الميداني والعرض المتبادل الذي بدا بين كل جغرافيا العالم، حيث لم يعد المفهوم الثقافي مجرّدا على منطقتين الشرق والغرب بل أصبح له منافذ متعدّدة وتصورات تعبيرية مختلفة وأفكار تواجه بعضها البعض من أجل إثبات الذات والآخر والعكس بين كل الأطراف، وهو ما جعل تصورات الفكرة الأساسية لهذه الظاهرة تتحول إلى رؤى أسّست لظاهرة الاستشراق الجديد أو المستشرقون الجدد التي تسعى لخلق حلقات تبادل بين فكرتي الاستشراق والاستغراب وربطت تصورات الطرفين جماليا وفنيا وفكريا ومرجعيا حتى تتجاوز الرؤى مجرّد التعبير نحو المواكبة والتواصل وتفكيك الصراع الحضاري والثقافي.
ورغم أن تجاوزات بعض المستشرقين الجدد حاولت في الفترة المعاصرة تكثيف الاستفزاز المبرمج والمُمنهج بصريا فلسفيا وسياسيا باسم الحريات التعبيرية، ومن منطلق الفوبيا والاكزينوفوبيا، حتى أن كل ذلك التعايش بين فكرتي الشرق الغرب لم تنفذ من الصدام والجدال والتناحر الفكري الذي خلق النفور الذي بدا في بعض اللوحات والأعمال الفنية الغربية الذي خلق الاستفزاز من خلال الطعن في المقدسات الشرقية أو رسوم الكاريكاتور التي تطرح تحيّزا يستفز العادات والتقاليد والرموز الدينية والثقافة فكل هذا صعّد لغة التواصل البصري وحطّم روابط البحث في الثقافي بشكل مؤثّر في بعض الأوقات خاصة وأن التعامل مع مثل هذه المنجزات لاقى الرواج والنشر من خلال الاعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي.
غير أن الكثير من المستشرقين الجدد تجاوزوا فكرة الصدام نحو النقل وأسّسوا رؤية تواصلية ثقافة مختلفة بنت دعاماتها على الكثير من الترتيب الفكري والبحث الحضاري والتنقل في مدن الشرق بشكل تفصيلي وبحثي حمل الاختلاف المشهدي وأسّس لفكر فني استشراقي جديد أثّر على جيل كامل من الفنانين وأسّس لحركة تبادل عكسية مع المستغربين، الفنانين الشرقيين في الغرب>
john keane
الشّرق المسكون بالجراح بالفوضى بالحروب والتقسيم هي الصورة الجديدة التي حاول المستشرقون الجدد التعامل بصريا معها والتقاطها جماليا من حيث عدّة مفاهيم إنسانية وثقافية، فالصورة المنجزة تختلف عما نقله المستشرقون سابقا من قصص وخيال وألوان ولكنها في نفس الوقت لا تستثني عراقة وأصالة وعمق وعتاقة الشرق، فالفرق بين شرق القرن الثامن عشر وشرق القرن العشرين والحادي والعشرين هو الإيديولوجيا الغربية التي نفذت سلطتها الاستعمارية وتعمّدت على خلق بؤر صغيرة للصراع ما غيّر الواقع في المشهد العام وغيّر الشرق الخيال إلى الشرق الواقع الذي تحوّل بنظرة الغربي للشّرق من خيال نسج حياة الحريم والثروة، إلى عين نقلت بوعي آلام الشرق ومآسيه وطرحت في داخله تساؤلات حقيقية عن سبب تغيّر ذلك الشرق كان إجابتها في كل عمل فني منجز وفي كل مشروع بحثي ونقدي بنى خصوصياته البصرية على المقارنة والتفكيك.
Ian-Everard
فقد تبنى المستشرقون الجدد أسلوبا فنيا مبتكرا للدفاع عن القضايا المعاصرة للشرق من خلال تصورات لونية وشكلية متباينة في دلالات رمزية، فنجد أعمالا قدمتها الفنانة التشكيلية الأمريكية “فانيسا ستاوفورد” تحدثت فنيا عن الانتهاكات التي قام بها الجنود الأمريكيون في “سجن أبوغريب” موظفة تاريخ الحضارة الشرقية كالفرعونية والبابلية والهندية حيث وظّفت رموزها الحضارية وعلاماتها اللونية وكذلك رموز الكتابة الهيروغليفية في معنى التجسيد بالصورة والتعبير بالشخوص حيث أعادت تشكيلها بعلامات بديلة تمثلت في صورة الجندي الأمريكي المستبد والسجين العراقي المسلوب والكلاب والسلاسل ودموية المشهد، وكذلك أعمال سوزان كلوتز وهي تتعايش مع المنطقة من خلال الناس وعاداتهم وهويّتهم الثقافية والتراثية التي استغلّتها في خلق منجز مفاهيمي بتراث التطريز والحياكة وفق سرد الحكاية من النهاية إلى عمق التاريخ المقدّس في المنطقة، وهي تتحدث عن التقابل والتصارع الديني الثلاثي الإسلامي، المسيحي، اليهودي مع تركيز سياسية الولايات المتحدة التي بسطت هيمنتها بالقوة على منطقة الشرق الاوسط.
*John Morita
ولا تقف أعمال المستشرقين عند اللوحات الفنية بل تتعداها نحو السينما والتصوير الفوتوغرافي مع الفنان والمصور الفوتوغرافي الأمريكي جون موريتا الذي عاش سنوات طويلة بالأراضي الفلسطينية واحتك مع المحتل الإسرائيلي ولامس ثقافته العدوانية الهمجية.
Vanessa Stafford
وتجربة ايان ايفرارد بتجريد الصورة من اغلفة الكتب والمجلات وتحويلها أبعد في السرد بلغة ما ورائية عايشت المنطقة ووثقت حروبها ومعاناتها المتشابكة.
وأيضا تجربة الفنان السويدي “مارك رودن” الذي عرف باسم جهاد منصور حيث اختار منذ سنة 1979 العيش في المخيمات الفلسطينية في لبنان ليرصد معاناة اللاجئين من خلال فن الملصقات مروجا أفكارا إنسانية تدعو للمقاومة من أجل الحرية والكرامة وعودة الأرض لأصحابها.
إن المميز في أعمال المستشرقين الجدد أنها نبعت من وعي داخلي حمل موقفا واضحا من العدوانية الغربية وفي نفس الوقت تقارب مع رؤى التعبير الجمالية للمستغربين المشارقة في الغرب فتلك المعايشة بنت جسورها الفكرية والمعنوية التي أسّست لتقارب أليف بصريا خلق الدمج بين الثقافات.
ما دفع بالمستشرقين الجدد نحو البحث والابتكار لأسلوب فني سعى للاندماج الإنساني بدرجة أولى مع القضايا المعاصرة والتفاعل والنهل من تاريخ الشرق والحضارة الإنسانية وتقديم صور تباينت في تفاعلها البصري مع المشهد الذي تجاوز الواقع من خلال تصورات لونية وشكلية لها دلالات رمزية متنوعة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply