كثيرا ما اعتبرت المرأة هدف وغاية الفنانين المستشرقين الذين هرعوا لاكتشاف جغرافيا الشرق من خلالها من أجل البحث عن نساء “ألف ليلة وليلة” والنساء اللاتي تغنى بعشقهن الشعراء، فقد فتحت الترجمة أبواب الخيال على مصراعيها لتثير شغفا امتلأ به الرسامون والأدباء الغرب، فمنهم من استجمع حواسه لرسم صور متخيّلة أسقطها على نماذج غربية، ومنهم من خاض مغامرة الاكتشاف الحقيقي لطبيعة الشرق وتفاصيل الحياة فكانت وجهتهم مختلفة بين شرق آسيا وشمال افريقيا حيث جسّدوا خيالهم وفضولهم في لوحات متنوعة جريئة أساسها إيروتيكي قدّم جسدا مثيرا حسيا وقدّم عالما ملونا ودقيق الجماليات المدهشة التي استطاعوا اقتلاعها من مجاز الوصف الأدبي والشعري إلى التصور الفني التشكيلي، ولعل من كسر قواعد الحريم أو الحرملك هو “أوجين دي لاكروا” الذي أتيحت له فرصة دخول عالم السلاطين والحكام والحريم ليكتشف أن كل ذلك محض خيال وتصوّر متصنع الفكرة المجسدة من الفضول بلوحته الشهيرة “نساء الجزائر” حيث غيّر نظرته المسبقة التي رافقت رحلته من فرنسا إلى المغرب بقواعد فنية وأسلوب تشكيلي حالم مكّنته الظلال والألوان من ابتكار صور ومشاهد طبيعية خارقة الذوق والخيال عتّقت ألوانه وأنضجت تجربته التشكيلية التي بلا شك أثّرت على مسار التجربة التشكيلية الغربية.
وقد تغيّر الوعي الفني والجمالي والتجسيد البصري للمستشرقين ليختلف في مراحله الأولى عن مرحلة الجيلين الثاني والثالث، ولكن رغم تغير المعارف وإزاحة ستار الخيال الشاسع لتلك الصور المبالغة التي رسمت المرأة جسدا للشهوات في عالم مغلق يحكمه رجال أشرار قبيحوا الصور حيث كان التناقض منحازا لذهنية غربية حلمها الشرق المرأة الأنثى بفتنتها الساحرة بفكرة الجمال اللامألوف والجسد المغري.
إن فكرة التصور متصنع الرؤية في خيال المستشرقين لم تقتصر على اللوحات ولم تنته خصوصا مع تغير التعبير من اللوحة إلى الصورة الفتوغرافية فما أراده المصوّرون هو الاستمرار في نفس الفكرة بما تحمل من غرابة وإثارة وتحفيز على جعل الشرق جغرافيا الأنثى ذات الجسد المتاح فقد حملت الصور فتنة جمالية ومشاهد غير مألوفة عن المرأة العربية والشرقية بتنوعها الذي حاكى طبيعة الشرق واندماجها الذي فصّل انتماءها الديني والعرقي والاجتماعي.
فصحيح أن الصور الفوتوغرافية عكست الواقع ورسمت نساء مختلفات عن اللوحات خصوصا البدويات والفقيرات ولكن حتى مع تلك الحالات كان الجسد حاضرا في تداخلاته الذهنية التي قصدت معان مثيرة.
ففي الفتوغرافيا التي جسدها المستشرقون حاولوا أن يقدّموا صورة المرأة وفق مزاجهم ورؤاهم حيث لم يصوّروها وفق حالاتها التلقائية بعفوية حياتها المعاشة وتفاصيلها اليومية كنقل واقعي بل اعتمدوا توظيفها وفق مقصديات دلالية مختلفة ومتنوعة وغريبة في زينتها ولباسها في حضورها المشابه لعالم من الخيال بدأ في اللوحة ليتوافق مع ما يسعى المستشرقون لإظهاره.
حملت الصور تعبيرا عن رغبة دفينة طالما حملها المستشرق الغربي عن المرأة التي شغلت خياله كمجرد جسد يمنح المتعة جسد مسجون يحاول الانفلات للنور هربا من قهر الغرف المغلقة ليحمل بذخا مبالغا في فضائه حرير وحلي زينة وحضور معمار وزخرف وألوان.
فالصور الفتوغرافية للمستشرقين تحاول أن تبدو متوازنة حسب رغبة كل مستشرق وغايته وبحثه فمنهم من اهتم بالتركيز على الاختلاف والتنوع الثقافي بشكل موظّف ركز فيه على الأقمشة واللباس والفضاءات المغلقة البيوت والغرف ومنهم من بالغ في غرائبيات التصوير بمقاصده الشهوانية والجسدية في الفتوغرافيا العارية.
حملت الصور تفاصيل دقيقة وعميقة وبعيدة المدى البحثي في الهوية والانتماء من خلال الزخرف والعمارة الهندسة والتفاعل الداخلي معها وحضور المرأة فيها بكل حالاتها السيدة، الخادمة، الراقصة، البدوية، المدنية، كل امرأة تحمل تفاصيلها وكل لباس تكون فيه يعكس حضورها ففي الصور تركيز مفتعل على مدى تفاعل المرأة مع ذاتها في المكان ومع محاكاة العمق الداخلي للصورة من خلال محاورة تحاول أن تستنطق اللحظة والزمن لتعبر منه إلى الملتقي الذي يسعى إلى أن يستقرأ ذاته من ماضيه الذي يحاول أن ينفلت لتجاوز التزوير والمبالغة وإثبات الحضور والانتماء.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply