للفنان التشكيلي مبادئ ومواقف فنية قد تشمل الأسلوب والجماليات وبصريات الحضور والترتيب التشكيلي، ولكنها أيضا تشمل القضايا التي تتصادم مع الواقع وتحمل الرغبة في التغيير مع سلبياته، ولعل أبرز سلبياته التمييز والتفرقة والاستضعاف والتفوق الذي يمارس على كيان المرأة، باسم المجتمع والعادات والمعتقدات وسلطة الأقوى وهي سلوكيات تعيشها المرأة باختلاف مستوياتها وجوانبها الظاهرة والباطنة، وهذا التوجه والتمشي الفني والجمالي والأسلوبي يطرح مفاهيمه التشكيلي خالد ترقلي أبو الهول وهو يقدّم المرأة المفهوم، فكرة وموقفا، قبل أن يتعامل معها كمصطلح “قضية”، فقد أراد أن يتعامل مع ميكانيزماتها الأولى من عدّة جوانب حتى لا يبالغ في تثبيت جوانبها عاطفيا بل يعالجها من خلال البحث فكريا وفلسفيا وفنيا، الأمر الذي مكنه من ابتكار تقنياته التجريبية وأساليبه التي ارتقي بها إلى تثبيت فضاءات جديدة في عالمه خصوصا وهو يفعّل من عنصر “الأنوثة” أيوقونية الحياة وعلامتها البصرية رغم صدمة المشهد، فهو يستحضر الخط العربي وتراث المنطقة ليندمج مع فراغ المساحات المخصّصة للوحة حتى تتحمل بالتوازي الجوانب الجمالية الفنية والإنسانية.
لا تستدعي تجربة التشكيلي خالد ترقلي أبو الهول التأمل والبحث والتصور والاسترجاع بل تستفز التعبير الصارخ الذي يمرّ بملامحه وذاكرته وهو يستدعي الحكايات وينبش تفاصيلها التي تخزّنها الأعمال فهي تستنطقها لونا وعناصر وتجربة معايشة، تجعل الملتقي حاملا ذاته المستنكرة حائرا ومحاطا بالأسئلة، كيف كانت المرأة محور تلك القضايا وما هي دلالات وسائط التعبير الفنية وهل سردت الواقع وهل ذلك الواقع هو الذي فرض عليه التعبير بوعي وتوعية برقي وإنسانية، لأن المنجز الفني وحده لا يكفي لنشر الوعي المطلوب أو لكسر الحواجز ولأن المفهوم والطرح حقيقي يستوجب أن يحمّل الفنان والمتلقي مسؤولية العودة للنواة الأولى في المجتمع وعدم الاستسلام للنظر دون رؤية والتلقي دون ذائقة تستدرج الذهن للتصدي.
فتجربته تحاكي العنف المسلط على المرأة وتجادله بتكرار العنف في صدمة الألوان وحركة العلامات من أجل لملمة المرأة من شتاتها في رمزية الدماء أو اكتساح الفراغ باللون الأحمر أو دلالة الخيط الذي يكمّم الفم وهو يبتلع الصرخة الطاغية على العيون.
فقد أجاد نبش الداخل المكتظ بالتساؤلات عن سلطة الديني وتحريض المجتمع بعاداته وتقاليده على إقصاء الجسد أو سلطة الاستهلاكي وتشييئه أو سلطة الايروتيكي وابتذاله، فقد وظّف مواقفه بعلامات ورموز فرضت فكرة الجسد السجن والعقل التابع والحواس المفروضة وكل هذا ساهم في محو الكيان وبعثرة الوجود وردعه بالعنف الأيديولوجي والمادي والمعنوي والجسدي العنف الذي رآه أبو الهول والذي تمتلئ به المجتمعات الصغيرة ونواة الأسرة وتمارسه حتى المرأة على المرأة وتنشره في المجتمعات وتتستّر خلفه ليصبح عادة وتقليدا ذكوريا.
من خلال أسلوبه عن طريق الوسائط الرقمية والألوان المركبة والصورة والتفعيل الضوئي والتدريج الفني لمحاكاة الرمز، يطرح أبو الهول مبالغات الصورة وسجنها الاستهلاكي وصناعة الأنثى الجامدة البلاستيكية على هوى سوق الصورة بطرح فكرة المادي بإقصاء الفكري وتكثيف الحواس المبالغة وإبعاد العاطفة الذهنية عن الادراك.
يحاول أبو الهول أن يشكّل المرأة كعنصر تشكيلي ليلبسها الرمز ويعيد لها الكيان بين توافقات القبول وصدامات الرفض بين البوح والإفصاح والمنع والتكميم بين الانطلاق والتحليق والسجن والتكبيل فهو يثير الاستفهامات المسكوت عنها كي لا تُحكى ولا تُرى وهنا يحاول بصريا ومن خلال تشكيل الفكرة أن يخيط فمها أو أن يُغطي عينيها للتعبير عن العادات التي تلغي اكتمال حضورها.
يعتمد أبو الهول إضافة للعلامة والرمز والملامح والألوان والخطوط والحركة والضوء على الحرف العربي ليعكس قيمة جمالية وتوظيفا مجازي الحضور في تأكيده لمفاهيم الانتماء والبيئة كرمزية دقيقة تستدرج التعبير عن السلطة والحدة وصرامة القيود فالحروف تنزل بعنف قاس وكأنها جلد وتنساق في تطويع جمالي عميق ينتصر على الحالة ليتجاوز مسافاتها المباشرة نحو الوجود الأبعد في المعنى.
لخالد أبو الهول طقوسه الفكرية والفنية والفلسفية في تطويع قضية المرأة انسانيا وتجاوز نسقها الاعتيادي في البحث والمواجهة، فهو يستقرأ الفكرة ويستعير مجازاتها يُوتّر تواتراتها ويستوطن زواياها بصخب كثيف المواجهات اللونية بظلال وضوء بخطوط وملامح ليتفوّق على العنف في دلالات يَقظة في حرتها وتحوّلها نحو النور وملامساتها لمفاهيم الحياة والبقاء.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply