يُشير مصطلح automatism أو التلقائية في الفنون البصرية غالبًا إلى أسلوب الرسم اللاواعي الذي يسمح فيه الفنان لعقله بالسيطرة، حيث انتشر هذا التوجه تطبيقا لقواعد الفرويدية التي أقحمت النظريات التحليلية في علم النفس والتي استلمها الفنانون والشعراء ليقوموا بتوجيه مساراتهم الفنية نحو تعبيريات جديدة غريبة ومطوّعة للكثير من الغموض والفكر والفلسفة، اشتهرت خلال القرن العشرين من قبل الفنانين السرياليين الذين نشروا هذا التوجّه وأثّروا به على الفكر والتعبير الفني، بسعيهم إلى إطلاق العنان للقوة الإبداعية للاوعي في الفن.
وقد كانت المعايشات للأحداث اليومية والواقع العالمي العام ذات تأثير اختلف حسب الفكر والمسار والتلقي والتفاعل، فقد كان ينظر للتوجهات الحداثية على أنها المحرك للفلسفة البصرية بحيث كان الفن والرسم التلقائي هو السبيل الوحيد للهروب من القيود الثقافية والفكرية والتاريخية وإطلاق العنان للإبداع الأساسي الذي يُفترض أنه استقر في أعماق شخصية الفنان وأثّر فيه حتى اتخذ مسارات جديدة وخطا خطوات ابتكارية لاقت صداها وانتشارها.
*Phe Ruiz
بالنسبة للفنانين السرياليين، يمثل الرسم والرسم التلقائي شكلاً أعلى وأكثر نبلاً من السلوك، وهو موقف لا يختلف عن ذلك الذي عبر عنه مخلصون للفن الخارجي الذين يرون الثقافة والتعليم كنوع من القيود الإبداعية، بصرف النظر عن السريالية، تشمل الحركات الأخرى التي لعبت فيها الحركة التلقائية دورًا ومنها الدادائية أو النمط الإيمائي للرسم الحركي وبالخصوص التعبيرية التجريدية التي غيّرت الكثير على مستوى مشهد العمل الفني، عندما أصبحت الأوتوماتيكية جزءًا من العمق التجريبي للعملية الفنية لكل من الفن الحديث وما بعد الحداثي.
Susan Schimke*
نشأت التعبيرية التجريدية في علاقة متماهية مع التلقائية من حيث الانتقال من الصورة إلى ما ورائياتها النفسية والاعتبارية لكل التوافقات الحسية والذهنية التي استطاعت أن تنفذ نحو الحركة واللون وتوظّف التداخلات من خلالها وهو ما جعلها من أبرز الحركات الفنية الجديدة التي بلغت أوجها في نيويورك في فترة الخمسينات حيث أثّرت على التجربة التشكيلية الأمريكية وانتشرت عبرها نحو العالم إذ سلّطت الضوء على هذه المدرسة وروادها خاصة مع تجربة جاكسون بولوك وويليام دي كونينغ في الوقت الذي بدأ في التجريد التغلّب على الفن الحديث باكتساب فلسفات بصرية جديدة وهو ما تفرّع به نحو التعبيرية التجريدية لتحمّل طابع مختلف من التعبير عن الحياة والعاطفة.
Richard Harrison (1954(
فقد تفعّلت الرؤية من الاعتقاد السريالي بأن الفن يأتي من العقل اللاواعي حيث انقسم التعبيريون التجريديون إلى مجموعتين مجموعة رسامي الحركة ومجموعة رسامي الحقل اللوني، لتتميّز الأولى بضربات الفرشاة الفوضوية والمنفعلة، أما الثانية فقد حمّلت اللون أسطحا صلبة وحوافا ذات ألوان تداخلت في عمق كل لون من خلال الخطوط واختراق الحدود اللونية والمساحات ليكون اللون مسطحا للون المتداخل بجرأة استطاعت أن تحمّل اللون اللامألوف مسارات أخرى وحقولا جديدة.
طه الصبان*
ساهمت التلقائية بتثبيت الرؤى البصرية مع اللغة التعبيرية التجريدية التي تداخلت أحيانا معها التسميات مثل التجريد الغنائي أو الآلية التفعيلية في الرسم على المساحات الممتدة، وهو ما أثّر بشكل كبير في دعم التيار التعبيري التجريدي بمجموعاته الاسلوبية من حيث التقنية والتفعيل والاحساس والانطلاق التجريبي في كل توافق سواء في اللون أو في الحركة بين الفوضى والاضطراب والتداخل وكذلك الترتيب والتمكّن والتعبير وهنا اندمجت تلك التلقائية مع خصوصيات التجريد وما رسّخته في عمق الصورة ومع تقاليد التعبيرية حيث احتوت الغموض بالتفسير والأحاسيس والعلامات البصرية التي فتحت منافذ الاندماج الفني لتؤسّس أسلوبا قائم الذات.
سهيل بقاعين*
من خلال التلقائية يعمل فنانو التجربة التجريدية التعبيرية على تفكيك الشكل حسيا وإعادة بنائه بصريا ودمجه مع التفاعلات النفسية والحسية والاقتران بالواقع وأحداثه سواء القضايا الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والإنسانية ككل، كما يتمّ اعتماد الهندسة بشكل مختلف في تفعيل الحواف وتقريب المساحات وتوظيف المسطحات اللونية التي تحتمل التوصيف اللوني والتفاعل الحركي المندمج مع اللوحة بخلق مفاهيم من الاشتغال على الفراغ.
farrar wilson*
ان اندماج التعبيرية مع التجريد روّض الفوضى والتنافر في هذا التيار التجريبي حتى يتوازن في بحثه الجمالي والمفهومي بتلقائية مع كل القيم التقنية في التنفيذ من خلال استدراج الموازين أبعد في ثقلها المعنوي وهندسة فضاءاتها الحسية لتتكاثف التكوينات وهي تنطلق في توزيع منطقها البصري من خلال الأبعاد والألوان والأضواء والظلال والتحويرات الجدلية التي قدّمها الفنان بحركاته التلقائية واختياراته التي انفلتت من قواعد الفنون المألوفة نحو توقعات جديدة في السرد البصري.
Frederick Kann (1886 – 1965)*
قد يبدو تيار التعبيرية التجريدية بسيطا أو مستسهلا لحركة التنفيذ وتقنياته البصرية التي تطرحه على المحك بين الصورة والمشهد واللون والماورائية والتنفيذ وبالتالي تخضع التوازنات إلى فوضاها بتلقائية توجهها وهذا الحكم سطحي في تفعيله الانطباعي مع التلقائية ودورها في تكوين منافذ الفهم البصري للتعبيرية التجريدية لذلك يستدرج هذا المسار الفني المتلقي نحو خلق محاكاة بصرية وتماس معلن في تواصله مع المنجز ببحث داخلي وتلقائي أيضا، لأن العمل أحيانا يقرأ المتلقي وليس العكس فالتلقائية الواضحة هي التي تستنطق حواس الفنان من داخلها وتستثيرها ليفهمها ويتبع أثرها وكأنه يبحث في عمقه الداخلي عن ذاته ولكن بشكل فيه وعي فني وقدرة على التجاوب مع المنجز.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply