“إدراك مختلف لمفهوم الزمن والوجود” هي الحكمة المتوازنة في تعابيرها البصرية التي اختارها الفنان التشكيلي اللبناني الإيطالي علي حسون لتكون شعاره الباحث في مناطق الجمال التي تخزّنها ذاكرته وتحتويها مشاعره المحمّلة بالإنسانية، ليصف مرحلة الكورونا وما فرضته من عزل وتوقف للحركة والنشاط وما نشرته من واقع مليء بأخبار الموت والفناء، حيث تفاعل مع تأثيراتها عليه وعلى فنه من مكانه بخيالاته وخاماته وحواسّه وأفكاره التي استدرجها بكثافة نحو مكانه بمواقفه وذاكرته وانسانيته وتفاصيل الأمكنة وجمال الفنون التي ارتحل عبرها وهو يرسّخ فكرة الخلود للجمال، فتدعّمت مواقفه الفنية بالصدق والثبات على الجمال والعطاء والمفاهيم الحقيقيّة للإنسان والإنسانية.
لأن الفنان الحقيقي يحمل عمقه الإنساني بروح التفاعل والانتماء للحدث والذاكرة ولروح التغيير بكل حالاته ومواقفه يكون صامدا بذاته الجميلة وتوافقاته الجمالية التي لا يُفرغها الفراغ بقدر ما يمتلأ بها ويحرّك صمتها ويتفاعل معها لتُغري شغفه بالتعبير هي الطاقة التي تتملّك أي مُحاور يحمله فضوله إلى العالم التشكيلي لعلي حسون حيث لا يرجع من تلك المُحاورة إلا وهو مُشبع بروح إنسانية تقف في وجه الواقع برغباتها المستمرّة في الحياة في التغيير وهدم السطحية السخيفة والاستهلاك العابر ليخلق التفاعل الجمالي بالأمل.
“قد يبدو الواقع كئيبا في تراكم أخبار الموت والفناء ولكن الدافع نحو الحياة أقوى من كل تلك الاخبار ورغباتُنا المستمرة في التحوّل من واقع الموت إلى حقيقة الحياة أقوى بالفن لأنها راسخة الجمال حقيقيّة التعبير”.
يحمل علي حسون ثنائية الهوية وازدواج المعنى في الحضور والانتماء بين جذوره الشرقية وإقامته الغربية في إيطاليا منذ أن هاجر إليها بعد إكمال دراسته الثانوية تاركا وطنه يتخبّط في الحرب الأهلية، حيث تكامل مع هذه الثنائية وطوّر ذاته ليصنع خصوصيته التعبيرية من خلال الدمج كثيف المفاهيم الإنسانية، ليشبع مواهبه بكلاسيكيات التعبير الفني الإيطالي الذي تطوّرت جمالياته وقيمه وأسلوبه ودمج معها التراث الشرقي من خلال الحروفيات والروحانيات والقضايا والتواصل بهمز الوصل التي تربط عالمين وجغرافيتين تجادلتا بجماليات غربية وشرقية تفعّلت مع التراث العربي لتكسبه جرأة اختيار أسلوب البوب آرت حيث عبّر مستلهما روح التجديد والابتكار المعاصر فأبدع فيه وتميّز ليصف التفاصيل اليومية دون أن ينفصل عن مواقفه الجمالية والإنسانية التي دمجته مع واقعه.
هو في هذه الفترة يقف أمام مراياه الفنية ويستعيد ذاته الإنسانية وينبش تفاصيل ذاكرته وذكرياته يستعيد ترتيب فوضى الواقع والفن والاستهلاك محاولا غربلة كل الشوائب التي انتابت عالم الفن مؤخرا منذ “موزة الجدار لكاتلان” وهو يفعّل موقفه بأن الفن حقيقة الانسان وانعكاسه الخالد معتبرا أن هذه الفترة هي فترة إعادة تنقية الفن من تلك العادات السيّئة من الاستهلاك من البلبلة والإستعراض والإثارات التي كانت أشبه بفقاقيع لاستعراض مواقف الخذلان السخيفة من الفن مثل موزة على جدار بيعت بقيمة مادية مرتفعة رغم انعدام قيمتها الفنية وانعدام الموهبة والاجتهاد والتفاعل الإنساني، لقد وضع تلك المفارقة أمام مخيّلته وسحقها من ذاكرة الألم التي انتابت إيطاليا، ليستدرج روحه نحو الحقيقة الحقيقية للفن باعتباره عايش الإنسانية باختلاف مآسيها من حرب لبنان الاهلية التي هاجر بعدها ثم عاد إليها ليشهد تفاصيل ثورتها الأخيرة ويرجع محمّلا بأفكاره المشحونة بالإنسان وواقعه وأحاسيسه الدافعة للبقاء والحياة والكرامة والاستمرارية والعطاء الحر إلى إيطاليا التي عايش معها الهلع والموت الذي أصابها وأصاب العالم وأشفع الخوف بفكرة الانعزال وفكرة الحصار الذي أجبر الفنان الحر والانسان على أن يعزل نفسه ويوقف نشاطه العام وعروضه ولقاءاته.
يجيد علي حسون السيطرة على انفلاتات انفعالاته لأنه لم يتوقّف رغم فكرة العزل بل استمر في معايشة واقعه من مرسمه وحوّل نشاطه منه وإليه نحو العالم فاتحا منافذه الافتراضية لكل متلقّ للحياة، بين الفكرة واللون والصورة وتقنيات التعبير التي لا تصل إلى تفصيل المشهد فقط ولكن إلى تقمّصه وتحمّل مشاعره وأفكاره ومواقفه ورؤاه بماورائياتها التي تستطلع المستقبل من تلك المنافذ على الذاكرة بثقوبها الملوّنة.
من خلال أسلوب البوب آرت الذي يعدّ من أساليب ما بعد الحداثة في التعبير الفني ولكنه لا يخضعه للسطحية باعتباره يركّز فيه على توظيف الموقف الجمالي وبالتالي يعبّر فيه عن ذاتيّته التي تقول إنه وقت التغيير هذا الفعل الذي تسبقه الصدمة ويستميله الصمت ويحرّره التعبير الحقيقي بالمشاعر التي تتجرّد من انطباعياتها السطحية لتكوّن تناسقها الذهني الراسخ والخالد.
يصف علي حسون هذه المرحلة بأنها مرحلة الإدراك المختلف لمفهوم الزمن والوجود باعتبار أن فلسفة الفهم للموجود هي إدراك للحياة وأن التفاعل فيها هو انطلاق للترتيب الزمني وبما أن هذين المصطلحين حوّلهما عزل الذات عن التفاعل الطبيعي إلى مفاهيم تعبيرية في منطلقات الوجود المحسوس مع الأشياء فهو يثير التأمل في الإنساني بمزج الحواس مع التفكّر الوجودي ومع شاعرية الفن في التحوير الذهني للبصري في التفكرّ الوجودي وبالتالي خلق الألفة الموازية لتفاعلات التعبير الحقيقي في الفن وبالفن، فحسون يرى في حركته الفنية موقفا واثقا طالما عبّر فيه عن الانسان وواصل من خلاله إيمانه بأن الجمال هو خلود الفن وأن الإثارة ليس لها مؤثر ولا خلود مهما كان الضوء مسلّطا عليها إلا أنها لا يمكن إلا أن تكون مجرّد فقاعة فالحقيقي هو لذي يبقى ويستمر والإنساني هو الذي ينتصر للإنسان نفسه ويقترب منه بما يشكّل انعكاسا حقيقيا يحمل جوانب جمالية خالدة.
يعتبر حسون أن المادة والروح هي انسجام الجسد مع مفاهيم البقاء بما يضمن انتصاره على الفناء فالتنوع والاختلاف وتناقضاتها تعبّر عن الاحتواء والاحتواء انتصار للروح التي لا تميّز إلا الصفاء والنقاء وهو ما يصنع الخطاب الإنساني بشكل فني قادر على احتواء الصراعات الثقافية والصدمات والاختلاف والصمت ليكون إنسانا حقيقيا بمواقفه التي لا تلغي حضوره في الحدث والواقع حضورا محمّلا بأمل يشعّ في الحركة والألوان التي تستثير الفراغ وتراوغ جموده بالعمق.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply