لكل فنان تشكيلي بصمته التي تحاكي فيه الانتماء لعمق فلسفته البصرية وتفاعله الفكري واللوني والرمزي مع هويته وانتسابه للكون، وللفنان التشكيلي الفلسطيني المقيم بدمشق موفق السيد بصمته مع الفضاء والمكان والفراغ ومفاهيمها المتنوعة، من حيث التشكل والتوظيف والتوافق الحر مع التصورات التي تنبع من فكره وذاتيته وانتسابه وحالاته وقلقه ووجوده وماورائياته البعيدة.
خصوصا وهو يخرج من التعبيرية إلى الرمزية نحو السريالية المعاصرة التي أجاد من خلالها محاكاة الواقع في الحلم والمتخيّل في الكوابيس التي تبحث هي نفسها عن هدوئها الملتزم بالفوضى المرتبة والصداع المثير للفكرة.
تطرح أعمال موفق السيد في تعبيرها السريالي مفاهيم الفضاء والفراغ والمكان وجدلها الرمزي مع الكتل وأحجامها، من خلال اللون وتواتراته ومن خلال الأشكال وتوظيفها المادي والمعنوي.
فهي الأرض المسكونة بالريح والعاصفة والموج الممتد القادر على قلب موازين الطبيعة وتغيير الحياة والمنافذ المفتوحة على العدم والعبث والوجود القلق، رغم اتساع أفقه، فهو يحاور الرموز الصاعدة من أرضها إلى السماء في الامتداد الأزرق المحاكي للفراغ، وحدها السماء ثابتة والأرض لغة أخرى تحاول أن تتشبّث بتاريخ المكان وجدل الذاكرة وصورها التي تصارع التلاشي وتستيقظ عند كل عاصفة.
فمن خلال الأشكال والألوان وترتيب العناصر في اللوحة واتساعها والأفق الذي يحتضن غرائبيتها ويستدعي الذاكرة لتحمّل الحلم في ملامحها، تتكوّن نقطة الالتقاء الأولى التي تحدّد الموقف الجمالي من حكمة توحّد اللون الأزرق وتفعيله الفيزيائي وتحرير طاقته التي تستنطق الفراغ، فتحرك من خلاله الأشكال وتستثير تجاذباتها لتقع في الترددات والصدامات والتلاحم بين الوعي الموثّق للذاكرة واللاوعي الذي يستعيد رؤاه لتفسير المكان.
فكأنه يسأل كائناته عن أمكنتها موضّحا ترحاله الذاتي وفكرته المختلفة بموسيقى من اللون الطاغي على المكان المألوف والمشتهى والمُخبّئ في ثنايا المفهوم بأسلوب يدمج الألوان الباردة والترابية والأبعاد الضوئية ويتدرّج بها إلى أن يقوم بإلباسها الحالات ووجدانياتها الساكنة والصاخبة كما في الحلم.
فهو يحدّد المكان الذي لم يعش فيه ولكنه يسكن حلمه فيمزج ترحاله وقلقه وذاكرته وموقفه الجمالي ومخياله وقلقه ومخاوفه مع الحلم موظّفا الفراغ التبادلي والايجابي والسلبي مع الحركة والاستعارة والانعكاس الوهمي للعمارة التي ترتكز على التماوج بعيدا عن اليابسة.
فالمكان في أعماله ليس مساحة تحدّدها الجغرافيا بل هو امتداد التفكر والبحث العميق من الوطن إلى المخيم ومنه إلى الذاكرة فكأنه يلجأ إليها لينتشل منها الكوابيس الضجرة بالبحث والتركيب والغرابة فيقتلع الانتماء لها في ماورائيات الانتظار والترقب والبحث عن الكيان.
تتميز أعمال السيد بفضائها الواسع فالجداريات تسمح للون بالحركة الحرة وللكائنات بالانعتاق والعناصر التشكيلية بالبحث عن توازن إيقاعها وعن الهواجس فتنفض الأوهام من المكان لتحاكي باستعاراتها كل ما تخزّنه الذاكرة في درجات الضوء والعتمة وهندساتها وثقوبها التي تتسرب منها رؤى الواقع والتفوق عليه.
فهو لا يتماثل للبحث بقدر ما يتشبث بالحلم كمحرّك لهروبه المتناقض منها وإليها إذ يحاول بالفراغ استفزاز المكان وفق إيقاع يتوازن وينفلت في توليفات اللون والأبعاد الضوئية.
إن حركة اللون وانعتاقه ومداه المثير تمكّنه من معايشة الفراغ وامتلاك مفاهيمه وقراءتها ولذا استطاع بها أن يغير فلسفة اللاشيء بالفكرة واللون، حيث منحته خبرته في التصميم والديكور المسرحي والتلفزي والسينمائي من أن يتعامل مع عناصر اللوحة بأكثر مرونة وتلقائية واتساعا وأداء فكأنه يتيح لها فرص التكامل معا للاتزان مع الفكرة والمفهوم السريالي ونسق تصعيده الدرامي والتراجيدي والملحمي والصامت والموسيقي حسب ما تفرضه المفاهيم والمواقف وجمالية الهندسات التشكيلية.
إن ما يجسّده السيد في تصوراته السريالية يحمل علامات بصرية متنوعة من الواقع المرئي ومعالجاته البصرية المتخيّلة ما يفتح أفقا للتفسير فهو ينتشله من الأمكنة بتفاصيل الطبيعة والعمارة في زخرفها وهندسة أشكالها التي تحتل كتلها الفراغات لتثير المفهوم والأفكار من خلال التجسيمات التي تحدّد الرمز في الحجم واللون والمنفذ والثقوب في الملامح في الكثافة والحركة وفي المدار التكويني.
إن السريالية في تصور موفق السيد ليست مجرد أسلوب يتبعه أو يوظفه خدمة لأفكاره التشكيلية بل هي ابتكارات ومخيّلة وموقف يلامس روحه وطنه الباقي رغم التذبذب وتعابيره الثرية وتجليات بحثه المتنوع كما اختصاصاته الفنية فاللوحة هي رؤية اخراجية لها نسقها التصاعدي وإيقاعها لها غموضها وهلوساتها لها تداعيات سقوطها ونهضتها وإشراقها لها دورها وأداؤها المعلن عن مواقفها الإنسانية.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply