لا يمكن أن يختلف مؤرخو الفن والنقاد على أن السريالية والمفاهيمية بتصوراتها الحديثة والمعاصرة هي من أكثر الأساليب الفنية المثيرة للجدل والصدمة البصرية جماليا وفنيا وتعبيريا من خلال المؤثرات التي راكمت الصور وجمّعتها لتشكل رؤى الواقع وتفعل صوره بدهشة ماورائية وتصورات غرائبية جريئة الطرح ومستفزة التلقي وهو ما جعل فنون الحداثة وما بعد الحداثة تتمسّك بصراحتها الطاغية في الفكر والخيال والتصور والأحداث والوقائع.
وامتلاك الأسلوب السريالي المعاصر هو رحلة الحلم الذي يمشي على حواف الواقع متشحا بعتمة موغلة في تشاؤمها الباحث عن بريق النور، أما المفاهيمية فهي انعتاق كامل من قوالب الانتماء الى الشكل في بحث عن بساطة التصورات التي تعبر بلا تكلف مادي انطلاقا من فهم ذلك الواقع واختلاج الفكرة بحواس التفكّر.
ورغم اختلاف الأسلوبين إلا أن كل منهما يتعامل مع واقعه بصراحة المحاكاة الجمالية وجرأة البحث الصادم عن الانعتاق من حدوده الفاصلة بين الخيال والبحث عن الأمل الباقي.
وقد تميّزت التجربة التشكيلية العربية باندفاعها المتجدد في التعبير بكل الأساليب والخوض في كل جديد يواكب تفاصيل الأحداث والوقائع حسيا وجوديا نفسيا فلسفيا وفكريا سياسيا واجتماعيا، فهذه المرحلة الحداثية والمعاصرة بتراكماتها تتفاعل جدلا وفنا وفكرا وتصورا مع محامل واقع متخيل بصداماته وصَدماته المُعبر عنها، فالسريالية منفذ الكابوس الحالم، والمفاهيمية منهج الأداء المنفلت من الفهم وكلاهما يسعى لأن يحمّل موقفه البعد الخالد والمؤثر من العرض والتلقي والتطوير والنضج.
فالسريالية التي كانت تُرى ضربا من الجنون في التعبير الفني ليست إلا ملاذا للتجلي، تنعتق من قوالب جنون مفرط في واقعيته وتفوق مبالغ في صدمته المدهشة، فالابتكار السريالي للتصور التشكيلي في التجربة العربية حمل أهميته التعبيرية الجادة والملتزمة بقضاياها التي تعمّقت في مواضيعها ومضامينها وأسلوبها المندمج مع واقعها وظرفها ومآسيها وخيالها فالتجربة التشكيلية العربية حملت هوية انتمائها في المنهج السريالي وعمّقت خيالاتها وواقعها لتدمجها تعبيريا معها برسم خطوط التصور ومداه الغرائبي لتكوّن صورها بتأثر مداها الواسع ولتؤسس للفكرة والتفكير وتفكيك الرؤى وتجميعها بصريا وتركيبها مع معطيات الأحداث فحشد الأفكار والصور والتفاصيل يشبع حركة التشابك الفكرية وتطابقها مع الخيال الذي لا ينفصل عن واقعه وانتمائه وتفاصيله الدقيقة البسيطة والمعقدة في الفهم والشرح والتصوير والتطرق فنذكر تجربة الفلسطيني عدنان يحي التي سردت المعاناة الإنسانية وأوجاعها المثقلة بالمجازات برؤى ملحمية صادمة لغتها عكست تأثرا بسوداوية الواقع الفلسطيني في مراحله التي لم تخل رغم ألمها من أمل البقاء ورغبة الحياة فالتجربة بتفصيلاتها وصورها ومزاجها قرأت رمزيات التلقي للمشهد التشكيلي من التجريد إلى السريالية التي عبرت الفضاءات بتلقائية عميقة لتجسد الحرية في عفوية موقفها الصريح في رفض الظلم والطغيان والسواد بتداخل الألوان والظلال التي تتشابك وتتصارع من تناقضات الحياة والموت، ففكرة الموت يصارعها بالتشبث بالبقاء حتى من المبالغة في الكآبة والخوف في الفزع والعتمة يستذكر من عمقها الحسي النور.
وكذلك تجربة الفلسطيني مصطفى الحلاج حيث تعتبر تجربته ابتكارا مفزعا فجّر الرؤى من حلم التناقض والوقائع فالرسم عنده تقمص للحالات وانطلاق عبر عوالمها نحو الأسوأ بحثا عن الحياة ينفذ رؤاه الغارقة في التاريخ والأسطورة بأسلوب الطباعة والحفر من خلال الرسم المباشر باستخدام قلم الرصاص والتصميم على الورق ثم نقله إلى الحرير من الصبغة وفرض ألوان تندمج مع التأثيرات المناسبة للتصميم مع الشاشة الحريرية.
كما نجد التجربة الفتوغرافية للمصور اللبناني جورج سامرجيان في تجسيد الصورة الحكاية وانتشالها الحالم من سواد الواقع إلى ضياء الحلم والأمل من خلال السريالية الفتوغرافية وتوافق مشاهدها مع الواقع بتكثيف ماورائي يلامس حلمه الأرقى.
تتسم السريالية في تعبيرها التشكيلي العربي بالجرأة الغارقة في واقعيتها والانطلاق الأعمق نحو تحريرها من بؤسها بالنبش في تفاصيلها ومحاولة اقتلاعها من مآسيها نحو الأمل ولعل البحث والنضج والتحول المرحلي نحو الأساليب الفنية لما بعد الحداثة ومنها المفاهيمية لم يفصل التجربة التشكيلية البصرية عن واقعها بكل تعبيراته فهذه التجربة بالأساس أكسبت التعبير واقعه العميق والفكري والمعنوي بمقاصده ودلالاته وفق السياقات المقترحة ولعل توجهها كتعبير مستقل ومنهج له قواعده وقيمه وتركيبته البنيوية في الأداء والتجسيد والتجلي لا يختلف عن السريالية وعن حالاتها المجنونة في التصورات ولكن بتركيز أكثر وأكبر على السياق الفهمي والمفاهيمي حسيا وذهنيا لاستيعاب ضرورات الصور وما وراء المعنى الأول فيها بحرفية عميقة نذكر تجارب عربية متعددة مثل الإماراتي حسن الشريف والسعودي فيصل سمرة كما نجد اللبناني أيمن بعلبكي والفلسطيني أشرف فواخري العراقي محمد السعدون الليبية الهام فرجاني.
كل فنان قدّم فكرته من خلال واقعه ومواقفه واندماج مشاعره التي توافقت مع مخيلته وحاكته بدأ من تعابير الذات إلى قراءة الواقع الفهمي للمجتمع بتدرج يراكم الجوانب النفسية والوجودية فمن تأثير الحروب والتهجير وسرقة الحضارة وغياب الملامح في تجربة العراقي محمد السعدون مع الأبواب المحروقة والكراسي والكتب الملطخة إلى صناديق الحجارة المجمعة من تراب الوطن في تجربة الفلسطيني راجي الكوك إلى تراكم الامتعة والسيارات المحملة بها في تفسير مفاهيم التهجير واللجوء للبناني أيمن بعلبكي كل تلك التداخلات المكثفة بحسياتها المفرطة هي تعبير ينفلت من كآبته الموجعة إلى منافذه المحلقة بالأمل المتجدد للحياة وللفن وللتجربة المعبرة عن ذاتها الفردية والجماعية في واقعها المعاش.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply