تعتبر المرحلة الحديثة في الفن التشكيلي من أبرز مراحل التطوير وأكثرها تمرّدا وبحثا وانطلاقا وجرأة. حيث قادت إلى مواكبة عوامل التغيير الاجتماعي الثقافي الاقتصادي التقني والفكري والفلسفي وكل التراكمات التي أسست الرؤى البصرية الجديدة في الفنون من خلال النهوض بالفكرة وإحياء المفهوم الانساني أكثر والتركيز على دوافع الفن انطلاقا من رؤية الفنان نفسه ومدى تقبّله لعناصر التواصل الجمالي.
ولعل التطورات الجمالية الحديثة هي التي فرضت خصوصياتها مع تصورات المرحلة المعاصرة وهي التي أفرزت مذاهب الفنون بمداها وتفاعلها مع الفكرة والمفهوم والتعبير والحضور في التجريد والتكعيب والمفاهيمية والسريالية التي واكبت بدورها ما بعد الحداثة في الفنون وابتكرت لها رؤى وفلسفة بصرية نسّقت طبيعة الخيال واللاوعي مع عمق الواقع واستمرت في تعتيق الرمز حسب الفكرة وانحساراتها المختلفة أبعد في الصورة ومعانيها ودلالاتها وعلاماتها الجمالية.
وقد واكبت السريالية في الفنون المعاصرة طبيعة الواقع ومدى البعد عنه والتفوق عليه واستلهامه وهو ما نوّع التجارب كل حسب انتمائه وموقفه الجمالي من واقعه.
فلم تتوقف السريالية عند مجرد اتباعها كمذهب في الفن بقدر ما كانت منفذا غرائبيا استطاع مواكبة النفسية وفلسفة الوجود ومدى توظيف الواقع ومعالجته.
فمن خلال المواقف الفنية كان مسارها الجمالي هو ما مكّنها من أن تخرج من صفة الجنون اللاواعي والخيال المبالغ إلى التوافق الحضاري والإنساني في التعبير عن بشاعة الواقع مقابل الافراط الخيالي فيه وجوديا ونفسيا.
وكأن التجربة المعاصرة تريد أن تبوح بذاتية المعاناة الإنسانية التي تجاوزت كوابيس العتمة واللون فامتلأت بماورائيات البحث البصري وبالغت في التعبير عنه خاصة وأن الصدامات لم تتوقف وتنوعت في معانيها ومواقفها الفكرية وحساسياتها المختلفة.
ولعل متابعة بعض التجارب العربية ومقارنتها بتجارب أخرى غربية يطرح إشكالية مدى توافق كل تجربة مع خصوصياتها وتوظيفها الجمالي للتعبير الذاتي عن الانتماء للواقع والمواقف الفنية المطروحة في كل تجربة.
حيث تبدو التجربة العربية متعلقة بقضاياها ومتفاعلة مع واقعها ومنه تختلق مواقفها الجمالية وتفسّر أسلوبها وتفوقها على الواقع بتحديات التعبير الذاتي عن عمق الاجتماعي والثقافي والهوية والانتماء بتفاصيل كل فجوة ومنفذ انساني من خلال التداخل التعبيري فالسريالية تعبير غرائبي يفسّر حالة وعواطف ومشاعر أما التصور الغربي فهو بحثي فردي ذاتي انفعالي فكري أيديولوجي وجودي له فلسفة بصرية تبحث عن التمرد من الذات فتعبّر عن كوامن الوجود من الذات وهذا الذي يمنح خصوصياتها التطويرية علامات تفسّر مفاهيمها.
فمن خلال تجربة عدنان يحي مثلا يبدو الأسلوب متنوعا بما يطرحه جماليا وبصريا، فقد بالغ في تعبيريته وتصوراته فطغت السريالية على أعماله واستغل الرمزية في العلامة لتحديد توافقات الذاكرة والتشكيل والمفهوم والأسلوب الفني فقد فسّر أحاسيسه وحالاته في أعماله التشكيلية من لوحات ومنحوتات معتمدا على المزاج المعتم في الظلال والنور في حركة الأبعاد وفي ترويض الفراغ في جدلية الأبيض والأسود والألوان الباردة وتركيزها مع الدمج الفعلي بالأحداث خصوصا وقائع الشرق الأوسط والمشهد الدامي الذي عايشه من خلال الانفعالات والمواكبة فالرموز عنده حملت لغة جديدة حاكت القضية الفلسطينية وأحداث لبنان والعراق وألبستها للرؤية السريالية والأسلوب المعاصر فيها فتغيّر التعبير بتناقضاته فكأن الكابوس والمبالغة في البشاعة لم يعد مجرّد حلم أو تصادم انفعالي في كوابيس السريالية بل صار حقيقة انعكست في الخطوط والألوان في السطوح الباهتة وبرود اللون والملامح المشحونة بالحزن الذي يفيض من حركتها وحكاياتها وجعها وترقبها في نسق درامي متصاعد يحاول أن يستقوي بالأمل على الزمن في زوايا الانتظار أو التوتر والخوف.
*عدنان يحيى
ولعل تجربة عدنان يحيى تستنطق بالتعبير لغة السريالية في تجربة الأمريكية فانيسا ستاوفورد التي بدورها عبّرت عن معاناة الشرق الأوسط ولكن ليس كمواكبة معايشة للمكان بل كموقف انساني مساند وهنا تختلف الصورة في أبعادها السريالية بين التعبير الذاتي عن الواقع والتعبير الذاتي عن تلقي ذلك الواقع حيث يرى كل منهما الموقف والحركة الفنية بتناقض المفاهيم والمواقف من خلال اعتماد السريالية. ارتكزت لغة فانيسا على أحلام الشرق والغرابة في قصص التاريخ فوظفت الحكايات والأساطير ومن خلالها بعثرت التناقضات بين الحلم والكابوس بين الخرافة والملحمة وبين الحضور والواقع ناقدة سياسة بلادها فأسلوبها بالغ في الألوان وكأن التوظيف النفسي هو الذي يحرك حالات الفرح والقلق والحيرة في أعمالها فالملامح بدت غريبة كأنها سقطت من كتب الأساطير وحكاياتها.
*فانيسا ستاوفورد
أما تجربة موفق السيد فيبدو التفعيل اللوني حاضرا في مداه الأزرق وكأنه يعبّر عن الاتساع في المدى والضيق في التعايش مع العناصر التكوينية التي تثير الانسان وقلقه حيرته وسكينته وانتماءه وكأنه ينفلت من قيودها ويتجرّد من طبيعتها بغرائبية متخيلة موقّعة متفاعلة مع تواتراتها المتوتّرة بهدوء اللون الذي يخفي مخاوفا تتسّع في الفضاء وتترك للون عمق السفر والترحال وكأن الانفصال عن الوطن وسلب الذاكرة والأرض خلق له مدى أوسع بلا ثبات ولا يابسة تيه متعب وتعب تائه في الفكرة والتفكّر.
*موفق السيد
ما يتوافق أسلوبيا مع طبيعة تجربة ويليام كلوغلي التي تثير الفراغ باللون وأساسه الأول بالتحكم في المساحة فيعبر انطلاقا من المفهوم الفرداني والذاتي من خلال الإحساس بالأشياء في تصور الرحم الأول والحضور لا كمطلق ولكن كذات تأسّس لنضجها الفوق واقعي بالبحث والخيال الاكتمال والتمازج والتطور المتجانس الذي يحرّك به كائناته وأشكاله وعناصره ليدفع بها نحو الإحساس ويعالج الصور التي تستفز العاطفة.
*ويليام كلوغلي
ساهم التعبير الفني السريالي باختلاف مرجعياته الثقافية في خلق بحث عميق عن الماورائية الرمزية وما يمكن أن تشكّله من ثراء على مستوى الجمالية والمفهومية وعمق البحث فيها فالاختلاف وازن بين عقليتين في التفكير والتعبير والمشاركة والفهم الإنساني بتفكيك الموقف فنيا وتفسير الحالات والانتماء للقضية وللذات.
الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply