يفتح التواصل الإنساني منافذ مختلفة على الثقافات ويمهّد مسارات التجدّد التي تستوعب ذاتها في الانتماء والهوية والانتصار لكل قيم الاندماج بين مكانين بهويّتين مختلفين، إنها المعادلة التي أجاد توظيفها التشكيلي الأمريكي من أصول ألمانية هانز هوفمان (1880-1966).
فقد كان أحد الفنانين التشكيليين الأكثر تأثيرا في القرن العشرين والأكثر إلهاما لجيل صاعد من الفنانين، بصمته كانت مؤثّرة في التجربة التشكيلية الأمريكية الحديثة وما قدّمه للفنون أكاديميا وتجريبيا اعتبره المؤرخون والنقاد ابتكارا خارقا وتمرّدا مثيرا من خلال الحركة والنشاط وتحرير قيم اللون والهندسة والفراغ والمساحة والرؤى البنيوية في التشكيل العام للوحة بمفاهيمها البصرية والجمالية.
ولد هوفمان في مدينة فايسنبرج الألمانية تنقّل بين مدن ألمانيا كما تنقّل بين هواياته واهتماماته من العلوم والرياضيات والهندسة والابتكار والاختراع والموسيقى والعزف ثم الرسم الذي شغفه وجعله يترك كل تلك الاهتمامات ليتفرغ له تماما ويتفاعل معه بالبحث والتقارب والتماس التجدّد من خلال الانغماس في خصوصيات الماضي الفني الإنساني العميق، تحوّل هوفمان لاكمال دراساته إلى فرنسا في وقت كانت أوروبا تعايش أزماتها وتحاول الانفلات من واقع الحرب العالمية الثانية في صراع استشرفه هوفمان الذي اختار أن يتحرّر من صدمة الجغرافيا رغم أنه أسّس مدرسة للفنون بألمانيا إلا أنه اختار الهجرة، حيث وصل في الثلاثينات إلى نيويورك وتعايش مع الحياة الأمريكية بخصوصيته الألمانية مستفيدا من معارفه للفنون الفرنسية وإيديولوجيات الفنون الحديثة التجريد والتكعيبية والوحشية والحركات المعاصرة والمتجدّدة التي ميّزت تلك الفترة والتي طبعت الحداثة الأوروبية بأسماء مؤثّرة ما جعله منارة للفنانين الأمريكيين الشبان حيث أثّرت معرفته بفلسفة كاندنسكي وماتيس وبيكاسو البصرية التي شرحها وفكّك رمزياتها وبالغ في التواصل التفصيلي معها ما ساعده على تويع أساليبه في التدريس والتحوّل من النظري إلى التطبيق والاندماج والابتكار من خلال إقحام أساليب جديدة للفنون البصرية في الولايات المتحدة الأمريكية.
“الفن لا يتألف من التقليد الموضوعي للواقع لأن الفنان له دافع ابداعي يستدعيه للتمرد الخلاق من أجل ترك أثر مؤثّر فالتقليد العام للواقع ونقله كما هو لا يمكن له إلا أن يضيف الجمود، فلا يحرّك الطبيعة ولا يستثير الفن، فالتجربة الفنية الحقيقية التي يجب أن يثيرها الواقع الموضوعي يعتمدها إلى حد كبير في خلق تماس مع التجريب والابتكار والمزج والتآلف والتنافر والصدام والاندماج حتى يكون له قدرة على ترك بصمة جمالية تحوّل حضوره إلى واقع” هكذا تبدو الفلسفة الفنية التي آمن بها هانس هوفمان وهو يكسر حواجز البحث التي دفعته بالفن لخوض مغامرات مختلفة استقرّت به وللأبد في الولايات المتحدة الأمريكية فرارا من أشباح الحرب في أوروبا وانتصارا لإنسانيته في الخلق الجديد لأسلوبه الفني الذي ترك أثره الخالد في المسار التشكيلي البصري في أمريكا وأوروبا والعالم خاصة وأنه لم يهدأ ولم يتراجع عن التجريب والحركة ليؤسّس مسارا مشبعا بالألوان وبصمة مؤثّرة فتحت منافذ خارقة لأسلوب التعبيرية التجريدية( Abstract Expressionism).
تميّز المنجز الفني الذي قدّمه هوفمان بالبنية التصويرية الموحّدة من حيث التطوير القائم على فكرة الفراغ وفلسفة الوهم المكاني ما يعبّر عنها “بالدفع والجذب” المرتكز على اللون والشكل والحجم والموضع حيث تفاعل مع فكرته في تصورات التدريج الداكن الذي فتح مسارات التعبير ومنافذ الضوء والتخفيف وبالتالي خلق الحركة الداخلية فالتجريد والتعبيرية التي صاغها هانس في تصوّراته البنيوية للوحة حملت تمازجا وظّف فلسفة كاندنسكي وماتيس وفان جوغ معا على مستوى اللون ومنها انطلق وعبر نحو فكرة الوحشية التي تفاعل بها مع اللون وكأنه يغري الفراغ بالتدريج والتخلص من الشكل حتى يجد لنفسه منفذا للتخلص من التناقضات الحسية وإنضاج مفاهيمه بعمق بحثي بدا في المساحات اللونية الواسعة والتداخلات اللونية المتراكمة في حوافها كأسلوب مبتكر في رسم الأشكال والتخلّص من الحدة الصدامية للحالات اللونية حيث منحها دورها وإيماءاتها وتمازجاتها التلقائية رغم عشوائية تمريرها على المسطّح وقوّة تثبيتها لتتحوّل تلك العشوائية إلى فكرة مقصودة، وهنا خلق أسلوب الرسم بالحركة التي اشتهر بها جاكسون بولوك فيما بعد.
أثبت هوفمان تصوّراته التي تقول إن القدرة على التبسيط تعني التخلص من كل الزائد حسيا وذهنيا والمرور للعمق بالضروري.
تمكّن هوفمان منذ تعمّقه في التجريدية التعبيرية من النضج المتسلسل للحركة واللون والتباعد والصدام من خلال الفرشاة وضرباتها المتناغمة مع حدّة السكين في خلق مسارات ومساحات واضحة باللون، فقد أجاد التعبير بذاكرته عن تناغم الألوان في المشاهد المحفورة في الذاكرة والتي حفرها بالسكين وفي الانفعالات الحركية التي ميّزته حتى الفترة الأخيرة له التي عرفت عمقا أكثر وإيماءات أقل وكأنه يستثير المتلقي لاستكمال نضجه الفني من خلال فك الرموز وقراءة المنجز بصريا.
إن تجربة هانس هوفمان ساهمت في فتح مسارات جديدة للفن الحديث أثّرت ومازالت تؤثّر بعمق من خلال كل تلك الأعمال التي عكست قوّة تناغمه الحسية مع الطبيعة والحالات مع الواقع والذات مع ذاكرته وتأثير الجغرافيا والملامح والثقافات المتنوعة على كل منجز كان له وقعه في خلق تماس جمالي بين أوروبا والولايات المتحدة الامريكية.
*الأعمال المرفقة
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Colletions
Leave a Reply