عبّر الفن التشكيلي في مختلف التجارب العربية على امتداد مراحلها الحديثة والمعاصرة عن الهوية والانتماء سواء في المفاهيم الذاتية أو المفاهيم العامة التي تغرق في تطويراتها الرمزية وعلاماتها التي تحاول ملامسة الواقع أو التعبير عنه، وإيصاله بربط جسور الانفتاح التعبيري العالمي بتوظيفات حضارية ذات اقتباسات تراثية.
وهو ما ركّزت عليه وسعت لتطويره عدة تجارب تشكيلية عربية اتكأت في تعبيرها على خصوصيات الانتماء الذاتي والوعي بعمقه التأثيري بمفاهيمه العالمية، ما شكّل درجات وعي بارزة في مداها الممتد الذي طبع البصمة والهوية ومن خلالها شكّل علامات سردها بصريا مثل ما طرحته العديد من التجارب التي وظّفت التراث الإسلامي والعربي في الحروفيات والخط والمنمنمات والأدب والشعر وتسليط الذاكرة الشعبية والعادات والتقاليد وكذلك في الخامات والألوان والصور وهو ما سيحيل على تقديم بعض التجارب التي تأثّرت بالهوية والانتماء وقدّمتها في تصورات الوعي بالذاكرة.
إن البنية الذاتية لتشكيل الصورة في تصورات الفنية والجمالية من خلال التوافق مع التراث الحضاري يثري الفكرة البصرية في تجلياتها المفهومة وأبعادها الرمزية التي تستثير طاقة البحث فيها فهي لا تتشكّل مع زمن متغيّر بقدر ما تحاول استنطاق ذلك الزمن وتشريكه في واقعيتها العامة واستدراجها نحو الموقف الطبيعي الواثق من لغة التعبير فالفن التشكيلي العربي من خلالها يحمل خصوصيات تميّزه عن بقية التجارب العالمية ذلك أنه قادر على توظيفها بصريا بتحويرات فنية لمسارات ما بعد الحداثة الفنية التي تساهم بنسيجها الابتكاري في توظيف الذات وهويتها فيها، فلا تكون فعلا مسقطا ولا اعتباطيا غارقا في المحلية بل قادر على استدراج الذاكرة نحو تفاصيلها كما يبدو في تجربة التشكيلي السوري محمد قباوة وتوظيف المنمنمات.
حيث تمكّن من خلق رؤاه التعبيرية ومواقفه الفنية وتوظيفها مستلهما مساحاتها الجمالية وخياله عبر فضائها الزاخر بالوصف والعلامات التي اعتمد فيها خياله الغارق في عوالمها الملونة وكلاسيكياتها الغارقة في شرقيتها المنسابة مع ايقاعاتها وتوليفاتها الذهنية التي جسّدت الواقع بتوظيف ابداعي انفلت مع الابداع والقراءة بدلالتها المتنوعة التي سكنت روح التجريب في اندفاعه نحو التاريخ والحضارة وتبادله الثقافي الذي طوّر فكرة انتمائه وإعادته نحو فضائه فقد تمكّن من تحويل المنمنمات من عالمها الكلاسيكي إلى ابتكارات حسية وتوظيفية معاصرة من خلال انتمائه وواقعه بمزج الانطباعي والتعبيري والرمزي في التشكيلات المفصّلة للموقف والفكرة وكثافتها اللونية وتراثها الكثيف فاجتاح ذهن المتلقي وعبّر عنه فمن منمنمات شاهنامه الفردوسي وعالمها إلى إيقاع البيئة الشامية والحلبية وطقوسها الحسية وعوالمها الشعبية استطاع أن يخضعها لخصوصياته الفنية ويروّضها مع توازناته لينطلق بها إلى عالمية التفرد التعبيري التي خلقت بدورها تفاصيل مدهشة تحيل إليه وتنعكس على انتمائه وهويته.
وهو ما اتكأ عليه أيضا حسن المسعود في توظيف الخط العربي وجماليات الإرث الادبي في القصائد والاقتباسات وتشكيلها بعرض الأداء التعبيري ودمج خصوصيات الخط العربي مع الخطوط العالمية مثل الحرف الصيني والياباني وابتكار أدواته الخطية وحبره فقد انفتح المسعود بالخط واستطاع أن يمضي به بعيدا نحو التشكيلات الغربية المعاصرة دون أن يفقده خصوصيته، أو ينحاز نحو تشويه الصورة الجمالية فقد وظّفه أبعد في المفاهيم وفي الاستعراض وفي التقنية التراثية التي مكّنته حرفيا من اكتساب الهندسة وارتجال الأسلوب وتحمّل طاقته وطبيعته بالتوافق مع الخطوط الأخرى، والمزج مع الكتل المتكاملة بالمعاني إذ وظّف في اقتباساتها الرمز المعنوي والتجريد الشكلي والتلوين المتناسق مع الكلمات في إيماءاتها وتماسها المقنع في الحضور والايقاع الذي اكتسب السياق والدلالة الحس الذاتي والانتماء الى المقاصد في عاطفتها الشرقية المشرقة وترابطها الملحمي بذاتها التي عبرت به نحو العالمية بعراقيته الذاتية في اختياراته ونصوصه وحروفه ولغته وحواسها المرهفة بقوة وشموخ.
أما تجربة الكويتية ثريا البقصمي فقد حملت طابعها التراثي في علامات أعمالها لتحاكي الواقع المجرد بعمقه المتماهي مع ذاتية البحث والتجريب التلقائي وما امتزجت به مفاهيمها مع روح البيئة الكويتية بتفاصيلها الشعبية المنقولة والمحكية والمسرودة في الادب والرواية، وهو ما ميّزها عالميا وهي تعرض مسيرتها الفنية وتستعرض تفاصيل علاماتها وأمكنتها وملامح عناصرها وألوانها وخاماتها فهي لم تقتصر على المضمون والمفهوم بل دفعت بأعمالها نحو ابتكار خاماتها وألوانها المقتبسة من فضاءاتها المميّزة والخاصة.
كما حمّلت اللبنانية منى عز الدين في تجربتها مع التراث الأدبي العربي، التشكيل انفعالات البحث عن بصمة خاصة وتفرد مختلف ممزوج بما تختزنه من معارف حسية تتوافق في تشكل التوظيف مع البساطة المعقّدة والتعقيد الذي يحمل المعنى في تشابك الألوان صخبا وضجّة وتضمين يستنطق الحيوان ويؤسس له الرمزية البلاغية والحكمة التعبيرية التي تتناقض في القوة والحضور وفي الحدّة والانفعال فالمنافذ البصرية التي يخلقها الاتكاء على الادب الكلاسيكي وخصوصا في قصص كليلة ودمنة مشحون التوليفات حيوي الفكرة مرن التوازنات الحسية منعتق اللون معتّق المعارف رحب الفضاء رغم الكثافة والزخم يخضع للظل والضوء والخطوط ليتمازج حسيا وجدانيا ووجوديا مع الواقع والخيال الطريف.
إن توظيف الرث الادبي والخصوصية الحضارية يعتبر نقطة ابتكار وبحث وتوظيف وانطلاق ينفتح بالهوية على ملامح جديدة وتجريب يخضعها للخصوية الفردية قبل أوّلا لتنطلق من الفكرة المفهوم نحو اللغة البصرية القادرة على خلق وعي وتكامل فهمي عالمي قادر على إيصال الصورة أبعد في الموقف البصري أصدق في التفاعل الإنساني.
*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply