عرف الفن التشكيلي العربي منذ أواخر ستينات القرن الماضي تأثرا مختلفا في استيعاب درجات التعبير الواقعية المعاصرة تشكيلا وصورة وبصريات ترتيب للتوظيف الفني والجمالي من خلال المدارس الحداثية التي انتشرت في الغرب وأثّرت على أساليب التعبير الفني بدرجات النضج والوعي والتحمّل وتقبّل الرمز وفلسفته وتحميله صورا من الانتماء والذات والهوية والطبيعة والمواقف الجمالية.
*وجيه نحله
وهذا المسار الابتكاري الحداثي أثّر في درجات التلقي والتقبل ما دعا لخلق بصمة التجربة الحداثية عربيا خاصة وأن المنطقة متنوّعة في جغرافياتها الموجّهة نحو الانتقال الفني لتمكّنها من أن تحمل رؤاها الواقعية أبعد في التعبير وأنضج في تماس الفكرة الذهنية بصريا، وذلك بالخصوص من خلال التجريد و السريالية التي اعتبرت منفذا للفكرة الجمالية شكّلت تمرّدا واعيا بماورائياته التأثيرية على صحوة مجتمعات جديدة وانقلابات جدّية طوّرت أساليبها بالتوازي مع ما تلقّته في تماس النضج والتحوّل بالتجربة الغربية وانقلاباتها الجمالية، إذ استقت منها فلسفتها ومن خلالها اكتسبت الوعي الناضج.
*سامية حلبي
أثّرت هذه المرحلة على خلق التمشي الفني بخصوصياته وتفاعلاته الحداثية بتركيز رمزيات لذلك التجلي والتوليفات المقصدية في دلالاتها المعنوية والمفاهيمية حيث كان التجريد والسريالية فكرة صورة وغاية تجربة ورغبة داخلية في الانعتاق بالفن وتحرير عناصره المباشرة وامتلاك آلياته الحرة وبناء مساحات ممتدة لعناصره الوجودية والنفسية والفلسفية القادرة على خلق رؤى واعية وناقدة ومتقبّلة لهذا التمشي على اختلاف كل منطقة وتداخلاتها.
*عبد الله نواوي
فمن خلال التجريد تحوّل التشكيلي العربي من المباشرة إلى الفكرة ومن الفكرة إلى الرمز ومن الرمز إلى فلسفته وتجلياته وأبعاده وفكرته المستنطقة للون والخطوط للأشكال والملامح حيث الغاية الأساسية هي الغوص في الخصوصية الفردية والجماعية.
*عزت مزهر
وقد أعاد التوافق الفني لتلك الخصوصية فكرة العبور بأساليب تنوعت بين التجريد والسريالية لتحتوي ظاهرة بصرية فكرية رتّبت فوضى الذات ونفسياتها ورؤاها الخيالية النافذة على واقع من الصدامات والصراعات والتناقضات الداخلية والخارجية فمن الاحلام اليقظة إلى الواقع الكابوسي المُفزع أو المليء بالشكوك والتساؤلات أفرز العمل الفني رمزيات كان لها ارتباطها بالواقع وتماثلات التعبير عنه وانعكاساته الحسية والذهنية والبصرية والخيالية نبشت عمقه المستوحى من البيئة وعاداتها تصوراتها الحقيقية والخرافية تجاذباتها الفكرية ومداها المختلف.
*محمد عبله
إن التحوّل نحو التجريد أو السريالية هو تحوّل غامض بعناصر مفهومة أو تحاول البحث عن الفهم والنقد والقراءة، فالتحوّل عبرها هو دعوة للتعرّف عليها والتعمّق فيها وفي أسباب صياغتها فهي تصوُّر ذكي ونضج انساني في الصياغة والجمالية وتحويل للقضية الإبداعية من المباشرة إلى العمق في المحاورات التشكيلية التي تقمّصت المراحل البدائية والناضجة والمتجدّدة والمبتكرة وتماهت مع أحداث الواقع وأزماته ومع الفرد وحالاته، فما يحسب للتشكيلي العربي أينما كان انتماؤه أنه استطاع أن يوظّف البصمة الخاصة في التوافق الوجودي لأفكاره التعبيرية.
*مصطفى الحلاج
ولكن هذا الطرح قد يحيل على إشكالية مختلفة تتبلور في فكرة هل العربي بشكل عام مجدّد في تجربة تلقاها ولم يصنعها أم أن مسارات الحداثة هي اسقاطات غربية وعالمية أجبرت التشكيلي العربي على اتباعها ودمجها مع أحداث ألزمته على الخوض فيها والتعبير عنها لتشكيل لغة بصرية خاصة؟
عبد الرؤوف شمعون
تأثر التشكيلي العربي بالمدارس الغربية هو نتاج تبادل وتوافق تعبيري لم ينفصل عن الإرث التعبيري الفني والجمالي الأول المكتسب من تاريخ الفنون الإسلامية والحضارية في الخط والعمارة والحرف الزخرف والخزفيات والمنمنمات ولكن الحداثة كمرحلة كانت ضرورة ارتكازية حتى لو نقلت في بداياتها كتقليد تابع أو تعبير مقتبس في قواعده ونظرياته ولكن الخوض العربي في التصوّر التجريدي والسريالي اختلف على اختلاف كل فنان وكل انتماء، فالتجربة الفلسطينية واللبنانية والعراقية والمصرية تختلف عن التجربة الخليجية أو المغاربية مثلا، وهذا الاختلاف يكمن في تاريخ التجربة ومدى الحاجة اليها ونضج التلقي وخصوصية الانتماء للفكرة الغربية وتأثيرها والانعتاق من قواعدها وتماس الهوية واشكاليات التجرّد من تبعاتها وتحرر التجريب الذاتي من خلال درجة الوعي الخاصة وتلازمات الواقع وجاهزية الانطلاق بالتعبير وأطروحة، هل هو ابهار بالفكرة أو اختفاء فيها ودعوة لفك تعابيرها وملامحها.
*ليلى كبة
إن ملامح التجريب أثبتت في بعض التجارب خصوصيات مؤثرة عالميا ومن بينها تجربة الفلسطينية سامية حلبي التي خاضت التجريد والتعبيرية التجريدية التي توظّفها بإفراط مبالغ في تقاسيمه ورموزه العاطفية ذات التكوينات الخطية المتداخلة مع الحنين والتذكر مع الهلع والفزع تناقضات البقاء على الحركة والتصعيد والتنافر الجدلي الحي والحيوي في توتراته المتأثرة بالمضمون الذي بدوره يفتعل صدف التجريد لبعثرة الحكايات وترتيبها من خلال الرمز اللوني.
*عبد القادري
كما تتجلى الحداثة السريالية في تجربة عدنان يحي التي تتميّز بالتجريب الفني من خلال الفكرة ومحتوى عمقها المؤثر فقد تحوّل باللوحة والمنحوتة والخزفيات والحروف من الحداثة إلى التحديث بمسارات مختلفة وحالات متنوعة خلقت عنده حضورا تعبيريا ورمزيا وتشكيليا تجريديا وسرياليا وظّف فيه تلقائيات جمالية الصدمة في تعبيرها عن العمق الذاتي والواقعي.
*عدنان يحيى
وكذلك تجربة مصطفى الحلاج التي اتكأت على الأسطورة وتوغّلت في أبعادها برمزيات فنية انتشلتها من كلاسيكيات المعرفة ودلالات المفهوم المباشر نحو التعمّق التاريخي وجغرافيا الثبات وحقيقة الانتساب للأرض وهو ما بنى داخل أعماله حالات حسية تجاذب فيها الخوف والهلع مع القوة والصمود لتتحمّل موازينه الخفيفة في التصميم والثقيلة في تلاعب الضوء والعتمة لتنجز سريالية اركيولوجية المواقف البصرية التي تحاكي الواقع وتحاججه بالتاريخ والاسطورة لتوظّفه سرياليا، وتمجّد حضوره عاطفيا بتقمص غضبها وبؤسها ومآسيها.
*نبيل نجدي
أما التجربة الخليجية فقد انتقلت بالتجريد إلى خصوصيات البيئة والانتماء والعلامات المنفلتة من فضاءات التعبير المباشر والرغبة التزيينية في فكرة التعبير الفني خاصة وأن التجربة الخليجية عرفت التلقي الفني الاكاديمي الذي توجّه إلى مصر وأوروبا وهو ما جعل التلقين العام يأخذ الفكرة الجمالية بخصوصيات غربية في بداياتها سرعان ما تقمّصت تحديثاتها من خلال بيئتها ولامست واقعها اجتماعيا ونفسيا ونذكر بالخصوص التشكيليين بلقيس فخرو من البحرين ونبيل نجدي وعبد الرحمان السليمان من السعودية نجاة مكي من الامارات وثريا البقصمي من الكويت حيث عبّرت كل تجربة عن هواجسها وبحثها عن الذات في عاداتها وموروثها الذي أفرز الرمز الخاص والموقف الجمالي المعبّر عن الانتماء ومدى توافقه التجديدي على التجربة التي تميّزت بخصوصياتها التجريبية وانفعالاتها التوظيفية وحسياتها الذهنية التي تمكنت بالتدريج من أن تخلق الوعي وتفرز تطويرات للتلقي العام لفكرة الفنون ومداها التعبيري.
*ليلى ظاهر الزين
أما التجربة العراقية والمصرية فقد اعتمدت على علاماتها المتنوعة التي امتزجت مع طبيعة الثراء الفني والحضاري والأسطوري والانفتاح الخاص على عوالمه الجمالية الفكرية والفلسفية كما الاحداث الداخلية والواقع الجدلي المتنوع فلسفة وانتماءات كما في تجربة العراقي عبد القادري وتجلياتها السريالية التي عبرت عن واقع معاصر له أوجاعه وكوابيسه التي تفجرت موقف فنية.
وفي المغرب العربي نذكر تجربة التونسية يمينة المثلوثي التي أشبعت التجربة تماثلات رمزية وثقافية متطوّرة في ابتكاراتها وأما التجريب اللبناني في التعبير السريالي أو التجريدي فقد عايش واقع التناقض السياسي والاجتماعي وسمة الوقائع اللبنانية وتداخلات الصراع الفردي والجماعي مثل تجربة عزت مزهر وبسام كيرلس وفاطمة الحاج وشارل خوري ووجيه نحلة حيث تؤرخ أعمالهم الأحداث بالألوان وإيحاءاتها التجريدية والسريالية التي تكوّن فضاءات جمالية مستغلة الفكرة والرمز لتستفيض ببريق الحالات وتتماوج في تداخلاتها فتتهاطل وتتماطر وتتعاصف مشعة صارخة بتفاصيل الذات والمكان بوجعه وتصادمات واقعه واختراقه لجدران التناحر ما أفرز التحرر داخل اللوحات والحروفياته والمنحوتات التي سمت أوسع بدلالاتها.
إن التجدّد الفني العربي على الأسلوب الحداثي لم ينفصل عن واقعه في التصورات العربية وهو ما أثاره التشكيلي العربي وعبّر عنه وعبر منه نحو دواخله ومعانيه ومقاصده البصرية سواء في العلامة والرمز أو في الجدل والمفهوم الجمالي فلم يكن مقلّدا بل ابتكر تصوّراته من خلال روحه المعبرة عن نضج فهمه لواقعه وعن مداه وفضائه وموقفه الفني في التعبير الذي وظّف فيه معارفه ومدركاته الحسية واطلاعه على التراث ما أثار عمق المعاني الجمالية في تصورات الانتماء والهوية لا كمجرد تعبير بل كخامة وعناصر وملامح وتجليات مرئية.
*الاعمال المرفقة
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply