إن التعامل بين كتل اللون وفلسفة الفراغ يتعدى حدود المسافات ويثير غبار الذاكرة، بخلق التجليات البصرية التي ترتّبها التشكيلية الفلسطينية سامية حلبي وهي تُشغل أسلوبها بالفراغ لا كعنصر غائب بل حضور تعدّه للبحث بميتافيزيقية تحاول ملامسة الجمال بتوظيف اللون في الصور المجردة وهي تستعيد ذاكرتها وتستعير حنينها ومشاعرها لتؤسس لنفسها مسارات وثنايا تتشعّب في تجاويف اللون وكثافته وتواتراته التي تستنطق بالخطوط في ملامح الطبيعة وتروّض صمتها الموسمي بجماليات المنافذ التي تتركها لفراغاتها لتعبّر فيها بحريّة أكثر اتساعا.
فقد ارتبط الفن التشكيلي الحديث بالتجريب ومدى مشاركة الذات لأحاسيسها ولواقعيتها التعبيرية في خوض قضية الوجود والبقاء خصوصا قضية الانتماء للذات والوطن.
فالبحث عنما يثير التجريب في التجريد هو توظيف لعناصر اللون والكتل والفراغ الداخلي والبحث في مفهوم الفراغ التشكيلي وتوظيف أبعاده الجمالية ومدى تملّك الكتل والمقامات اللونية والاتزان والتوازن معها لصياغة المعنى في اللون وتفكيك المساحة حيث الانعتاق في سماء فضاؤها رحب التناول البصري.
إذ تبدو الرؤية الجمالية في أعمال حلبي متفرّدة التغيرات والمراحل الترتيبية لمفاهيمها التعبيرية التي تنساق مع واقعها وتتشبّث بانتمائها وبترابها وطبيعة أشيائها الخاصة، حيث تروّض حالاتها بالتجريب وهي تقتلع العاطفيّ من سطحيّة التوظيف وتنشر معه الرمز والعلامة في مسارات تقود نحو عمق التوافق الذهني والتمشي الداخلي بين الصورة وماورائياتها المألوفة والمخزّنة في الذاكرة ما يهدّأ الصراع المتداخل بين اللون والفراغ لتصل به إلى مناطق أبعد في المفهوم.
فهي تعوّد المتلقي على تبني فكرتها من منطلقات ترسيخ حضورها تجنّبا لضياع الهويّة واكتسابا للتمازج الإنساني بها من خلالها ما يحمّل تجربتها عناصر حيويّة، فتتدفّق حركتها بالاستمرار إلى أن تصل إلى التعثّر بالأمل.
فهي تسرد بصريا الفرح وتغطي بالفراغ المآسي مرة توّتر الكتل اللونية ومرات تسيّر مقاماتها بالتدرّج من السطح إلى العمق بتوافقات إيهامية تندلع ملوّنة في الفراغات لتتلألأ خارجها، وهي تتجاهل فراغ الحدث في الواقع بفراغ العمق في التشكيل فيكون محمّلا بطاقة مختلفة عن المعنى الاعتيادي للفراغ من حيث خلق مفاهيم الخطوط والألوان بالحركة والانسجام وتجاوز الصمت بموسيقى الضوء والنور ما يعمّق التفاصيل الجدلية بفلسفة بصرية تعلي حضور الانسان رغم تواتر التوتّرات وبعثرتها حسيا وترتيبها وشكليا.
إن ما يميّز أعمال سامية حلبي بمراحلها هو التفاعل مع الحجم المساحة والفراغ الكتل والأشكال بتوازن متناسق ومرتّب المربعات والنقاط الدائرات والمثلثات حيث تعالج بها المساحة في فراغ عمق مليء بمعارفها ومواقفها ومدركاتها لذلك يحتضنها بالألوان في تجريد أشكالها الصغيرة التي تجيد محاورة الريشة وجذب المتلقي بصريا حتى لو لم تطالبه بالفهم ولا بالبحث عن تلك المفاهيم التي تقصدها فهي تستدعي فيه الذائقة والاحساس للماشي معها لتركيب ومزج ألوانها وخلق حركة معها بجمعها، فهي رغم مرح ألوانها وتناسقها المريح تقدّم رسائل مجازية خاصة وأنها تثير إيقاعا متصاعدا يحتويها بدقة.
تجرّد سامية حلبي الصور في أعمالها باللون وتنسيقه مع الفراغات كمتنفس بحث عن هويتها التي لا تنفصل عن فلسطينيتها في الطبيعة فهي تنساق وراء ذاكرتها وهي تقودها في تراكيب اللون وانحسار الظلال وتفاقم التدريج والضوء والزوايا والأبعاد، لتحرّر ذاتها من الكتل وتجد نفسها في ألوان تذكّرها بالوطن في تمشي الاشكال المعتادة فتتحوّل للتعبير عنها برمزية اللون مثل تعاملها مع اللون الأخضر وتركيبته المختلفة والمتدرجة وظلاله التي تثير الأرض والطبيعة والامكنة أو اللون الأصفر والأزرق.
إن ما يميّز حركة حلبي التشكيلية وهي تصمّم تفاصيلها الجمالية هو حساباتها العميقة للفضاء مجال اللون والفراغ ومسار كل عنصر وخط وتأثر بحالاتها، لتحوّلها من مجرد تفاعل تصوري تعبيري إلى موسيقى عميقة تنعتق من اللون إلى الضوء تستدرج حركتها نحو الأمل وهو ينفلت من ثنايا الذاكرة راشحا بالحنين ومن منافذ الواقع عنيد الإصرار بالاستمرار والبقاء، ما يحوّل عملها إلى كتل متلاحمة فيما بينها رغم غرابتها تنساب ممتعة وملوّنة وحيويّة.
تحتل الطبيعة حيّزا مهما في أعمالها فهي تشحذ من ذاكرتها تفاصيل ألوانها فتركّبها وفق ما تعتّق من ألوان فتدمجها وتضيف تفاعلاتها لتصل لدرجة من جمال الكون والطبيعة ما يهب أعمالها نفسا روحيا يحاول فهم الطبيعة بمزاج انساني متقلّب وهو ما يوازن بين التطلّع والاطلاع ما يثير في الفراغ المعنى والمفهوم وطاقة محمّلة بالحنين.
امتزجت حلبي بشرقيّتها المغرقة في التفاصيل في هندسة الطبيعة وهندسة الانسان كما تأثرت بالفنون الإسلامية وفنون العالم مثل الفن الصيني والياباني الروسي والأمريكي ما وهبها فلسفة بصرية خاصة وعميقة ولها رؤاها المعبّرة عن ذاتها خصوصا في ترويض العناصر التشكيلية والامتثال لمفاهيمية الفكرة في التعبير واستنتاج الانتماء الأول ومعاني البقاء وخلق العمق والتوازن بين الفراغ والألوان والخطوط بين الاخفاء والتجلي العمق والإيهام والتماهي.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply