لا يمكن أن تقع عينك على عمل من أعمال التشكيلي السوري منير العيد دون أن يتملّكك اللون وتستثيرك حكمة تشكيله وصياغته وتطويعه بتلك الكثافة الزاهية والتمازج البهيج، فتذهب أبعد في محاولات الفهم التي تحيل أولا وأخيرا على جمال من نوع خاص له في كل زوايا التصور نكهة وعبرة وعبور آخر نحو منافذ فرح قادر على البقاء والحضور والإنسانية في تداخل كل تلك الألوان والزخارف والخطوط والأشكال والملامح الغارقة في عوالمها وقصصها.
فهو يستلهم حكمته البصرية من خلالها ليعتبر أن الفن الذي يقدّمه يحدّد وجوده ويستميله أكثر للاستمرار أبعد حيث العوالم التي يتنقل فيها صاخبة باللون وصخبها البهي قادر على تركيع الواقع المُعتم واستدراج تفاصيله أبعد في الاشراق بالحياة التي تليق بالإنسان وبحثه الدائم عن الأمان والأمل، فهناك يرى اللون بعمق قادر على احتواء الموضوع والمفهوم والعناصر، لأنه يترنّح مع الفكرة في عمقه ليساكن البساطة والمرح الظاهر فيها ويسرّبه للمتلقي فيتفاعل معه ويتواصل بكل حواسه وخياله.
فالأعمال التي يقدّمها لها طرافة الحضور في شخوصها التي يبالغ في استنطاق مكامنها وعمقها الشعوري والمشهدي وعلاقاتها فتكون قابلة للتحاور والتحوير وفق المساحات اللونية والتفاصيل الحسية التي تظهر بتلقائية صريحة في تلك الألوان وفي الشكل لتحاكي الانفعالات وتستثير الطبيعة في تناغماته العامة لونا ومشاهد وواقعا وخيالا في تفاصيلها المتداخلة بين هدوئها وصخبها وهو ما يخلق لديه التفرّد والتميّز في طرح مواقفه الفنية من خلاله شخوصه وثباتها وامتثالها لوجودها.
يوازي منير العيد بين القصة والموضوع ويستشرفه أبعد لذلك يفعّل كل عناصره التشكيلية لطرح موقفه بصريا، فهو يتماهى مع كل عمل مثل طفل يكتشف العالم المتداخل للصور ويداعب الألوان بنضج وبحكمة فرض عليها التعايش مع الطبيعة وتناقضاتها المتوازنة بتآلف وتبصّر وتأمل يستميل كل الحواس لديها ولدى عناصره البصرية في العمل الفني ولعل هذا ما اكتسبه من عوالم الطفل وهو يتعامل مع الرسم بسذاجة معبّرة وبألوان عميقة في مدلولها البصري النفسي والعاطفي.
فالفن العفوي شكّل محورا دارت في فلكه شخوصه ببساطة استطاعت أن تحرّضه على التعبير وفقها كمنهج طيّع ومُطيع للتوافق والتآلف والتكامل الحر مع الصيغ البصرية ذات المعاني الحسية الصادقة والإنسانية المُعبّرة، ولذلك أحكم توليفاته بين الأمكنة والأزمنة وحتى أبعد من خلال تراثه البصري ومن خلال الزخرف والنقوش الداخلية للعمق الفني للوحة في الخطوط ومنحنياتها الباحثة عن مسارات الأمل في الحرف وتشكّلاته الحسية ومدى تثبيته للهوية والانتماء حتى يكتمل بالوعي والحس القادر على تمكينه من استقبال مشاعره وفق الآليات التي يصيغها بها.
ولعل هذا التوافق خلق ألفة بينه وبين الحالات التي يعبّر عنها فمهما كانت غارقة في سوداويتها وعتمة القهر المحيط بها حاول أن ينتشلها ويتجاوز عنها السواد ويتقمّص معها حضورها في عمق الكون والحياة ما منح حضورها بهاء وحركة واستدراجا للعمق ترويضا لفراغ البحث عن المنافذ لأنه يستطيع صياغتها بين لون ولون وتلك الغرابة التي قد تتحكم في الأحجام والحضور والتمركز بتوظيف أسلوبه الفني الذي قد يضخّم الوجود الفرح في الحياة ويقزّم العقبات ويستنطق العلامات بالحرف والزخرف حتى تتكوّن لديه اللوحة بكل ما فيها من توافق حسي.
وهو ما قدّمه في العمل البصري الذي سرد به قصة “أم عزيز” الأم المقاومة التي نذرت حياتها لأبنائها بحثا عن الحرية والانعتاق وتحوّلت من مجرد أم لأربعة أسرى إلى أم لكل الأسرى والتي رحلت وهي على يقين أنها ستلتقيهم رغم ما في القصة من ظلام حالك التفاصيل والثنايا إلا أن منير العيد لم يقف عند منتصف القصة بل أكملها وتكامل معها ليسردها أبعد فهي الأنثى والحياة وهي المقاومة والانتظار وهي الامل والحكمة وهي المنفذ الذي صنع للحياة غاية وهدفا وأملا مستمرا.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply