يحمل مراياه ليعكس الحالات على ألوانه يتصوّرها تعبيريا ليتقمّصها ويعايشها ويتفاعل معها أبعد في التطرف الساكن في أمكنتها وأزمنتها، يستدرجها ويستنطقها لينتشلها من كآبتها ومن فرحها المفرط في التناقض بين حزنها الدافق والمتطرّف من واقعها وبين الحياة.
الواقع الذي أجاد تمريغ هذه الحياة في سراديب مُعتمة ومُهملة للإنسانية بفعل الحالات الداكنة بالحروب والتهجير والدمار النفسي وتجمّد الأحاسيس من ذاكرة المدن الجميلة حيث يُغرقها في عوالم داخلية تبحث عن بصيرتها بين الكيان والكينونة.
إنها الفلسفة البصرية والتصورات الماورائية التي يقدّمها التشكيلي أسامة دياب، تجربة تعكس ابتكارات صارخة بالبحث الكثيف حسيا وبصريا ورؤيويا داخل العمق الإنساني بانفعالاته وتقلّباته وطاقة تحمّله وانفجاراته الحسية أمام كل قسوة العالم والآخر وذلك الطيف الساكن فينا.
إن الحديث عن التطورات البصرية التي مرّ بها التشكيلي أسامة دياب لصقل موهبته الحسية والفنية ودعم حضوره الفني لا تختلف عن كل عمل أو مشروع أو تجربة صاغها لأنه خلق تماسكا وتوليفة تحمّل بها التعبير بالتجريب وابتكر الرؤى بالعرض ليحقّق انتصارات معمّقة لذائقته ووعيه ومواقفه التي تسردها أعماله بصريا.
يعتبر أسامة دياب أن العمل الفني لا يمكن أن يكون مجرّدا عن الحواس لذلك يقوم بتشكيله بتوازن حسي وبصري وبموقف عميق يبلور مواقفه ومنطلقاته الجمالية والفنية والاندفاع بها نحو الإنسانية المُطلقة التي تبدو في علاماته ورموزه وملامح شخوصه وحركة فرشاته وألوانه وصياغة اللون وتركيبه مع الضوء والظلال، فهي مكوّنات تجادل العناصر التي تشكّل اللوحة بين السطح والعمق والحركة والفراغ بالأسلوب الذي يحاكيها حتى تفعّل مقارباتها التي تتلاقى مع المتلقي في الألوان في الأمكنة في برود يستفز صمته بصخب يكسر جمود بصيرته الحسية ويخلق تماسا تفاعليا بين أفكاره وحواسه.
يبدو العنصر الإنساني واضحا في تفاعل دياب مع شخوصه حيث تظهر قريبة من واقعها أحاسيسها المفرطة في التداخل بين المخاوف والانتظارات وبين الترقب والتأمل والأمل تجعلها تعاني غربة الأمكنة ووحشة العزلة وبرود التمازج بين الظلم والظلام، وهي حسيات يبالغ في النبش فيها والاطلاع عليها وطرحها لتطفو على السطح بعمق الفعل والتكنيك والتركيب والخامة واللون والدمج بينها لتبدو متماسكة في الإنجاز والموقف العام من الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي بكل التوليفات التي تجمعه على مبدأ واحد هو الإنسان.
يرتكز الأسلوب التعبيري الذي يحاكيه أسامة دياب انطلاقا من واقعه على عناصر حسية أساسية ومواقف ورؤى ذهنية يحييها فيها، فالمرأة مثلا تستنطق حضورها حيويا كعلامة تجعلها الأيقونة الأكثر عمقا من حيث الدلالات البصرية التي تشير للتكوين والتاريخ المؤسس لذاكرة الانتماء الأولى للخصب وللأسطورة والحياة المبنية على عنصر البداية من خلال الولادة.
وهنا لا تقف التعبيرية التي يقدّمها دياب عند المذهب والأسلوب بل تتجاوزها نحو الانتماء الحسي والتوافق الرمزي من خلال الابتكارات اللونية والتمازجات المتداخلة بين العناصر التي تضفي تجديدا على التعبيرية نفسها، من خلال تبني أسلوب عاطفي عنيف وابتكار أيقونات ورموز مستفزة وألوان لها علاماتها التعبيرية الحسية التي تتجاوز الواقعية المفرطة بالكثافة المبالغة في تقمص اللون وتدريجه المتناقض بين النور والعتمة، خاصة إذا ما بدا الأسلوب متصلا بالتأكيد الذاتي وبخلق أسلوب اتصال بين الشخوص والأمكنة وأزمنتها فيكوّن لديها إماءات شعورية وذهنية.
فالأعمال التي يجسّدها تحاول محاكاة الصدمة في الهدم الحسي لواقعية الألم والمعاناة بين الانتظار الدامي والترقّب الضبابي بين لغة الانتماء والتشريد والأوطان المسلوبة في خضم البحث عن الذات كل تلك الكينونة الوجودية وأسئلتها المنسابة مثل السياط هي بحث عن أجوبة مُؤقّتة يبدّدها جمود العالم وانشغاله ولامبالاته، فالفكرة التي صاغها عن طريق الهدم والتراكم والكثافة والتداخل، هي سعي داخلي للبناء والترتيب وانتشال الأحاسيس النابعة من الصدمة لتكوين صياغة مختلفة للأمل لها فلسفتها وموقفها الإنساني.
*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
مجموعة أعمال الفنان التشكيلي أسامة دياب
Leave a Reply