شكّلت اللغة البصرية بين الخيال الشعري والتشكيلي والعكس تناغما لا يمكن تجاوزه، سجل أثره الجمالي، وأثّر على عدّة تجارب كان لها دورها في ابتكار ما عُرف بالشعر البصري أو اللوحة الشعرية التي تناغمت بدقّة عالية لتفتح مسارات التعبير المعاصر عن طريق الفيديو أو الاشتغال التركيبي والمفاهيمي.
*إبراهيم أبوطوق “سجّل أنا عربي”
وهذا الأسلوب ساهم في تحديد تصورات الفنون التشكيلية المعاصرة والحديثة، بخلق الدمج المشترك والجمع بين الفنون في الإلقاء الشعري أو الاستعانة بالقصيدة في العرض الفني البصري على غرار تجربة التشكيلي السوري عبد الله صالومة في اجتماع الفنون والتشكيلية الفلسطينية دانا عورتاني في مشروعها التركيبي الفني “ذلك الصمت الحاضر بيننا” والذي كان فيه الشعر حاضرا في الحروفية البصرية وفي نص المقروء من خلال الالقاء.
*فائق عويس “أنا من هناك..أنا من هنا الجدارية”
فلا يمكن التنقل بين الفنون دون تتبّع الأثر منها وإدراك التواصل بينها كمحاكاة لها مثالياتها العالية التي تبحث عن العمق الماورائي في كل دلالة وعلامة ولغة تستدرجها نحو التعبير فبين لغة المجاز والتشبيه والوصف والرمز تقع اللوحة في ارتسامات القصيدة وتستدرج القصيدة نفسها تأملات الرسام البصرية.
*أسامة دياب “أعطني الناي وغني”
وهذا هو التناغم الأساسي الحاصل بين الشاعر والفنان التشكيلي في كل انسياقاته وتوافقاته التعبيرية الكثيفة فكلاهما استفاد من التجديد الحاصل بين اللغة والبصريات والمشاهد والصور والتماس المتداخل بين تطويع اللغة والخامة والتوليفة التي تشكّلت من عناصر اندماجها حتى الوصول إلى لغة الفنون المعاصرة، وهنا كان لابد من الإضاءة على عيّنة من تلك التناغمات بين الشعر والتشكيل في التجارب العالمية التي أثّرت على المدارس الفنية وكيف أثّر كلاهما في الآخر ، مثل التجربة البصرية المؤثرة التي خلقت التواصل الزمني بين شعر “بول سيلان” وتجربة الألماني أنسلام كيفر على مستوى الخلق في تأمل التاريخ من الذاكرة الشعرية وصورها وهدم تلك الصور وإعادة تذكّرها رغم عدم معايشتها المباشرة، أو بين قصائد بودلير ودورها في التأثير على فناني التيار السريالي، فللشعراء دور مهم في ابتكار رحلة فنية عبرت الحدود المختصرة للوصف بالمجاز الذي تحوّل في الفنون التشكيلية إلى علامة ورمزية.
*أوجين دي لاكروا
فكم من لوحة بنت تفاصيلها البصرية قصيدة وكم لوحة أوحت لشاعر بالكتابة وهنا يمكن أن نعود إلى رؤى المستشرقين وآلياتهم البصرية التي تخيلت الشرق من قصائد عربية كانت محمّلة بالوصف والدلالات والملاحم والخيالات ساهمت بشكل كبير في التأثير على التيار الفني الرومنسي الذي ابتكر تفاصيله الساحرة أوجين دي لاكروا، فكم من شاعر تحوّل لرسام وكم من رسام انطلق في تشكيل صوره من الشعر ولغته، فلا مجال للفصل بين الأسلوبين إلا في اللغة التعبيرية حرفا أو لونا.
*حسن المسعود “مالي أطيل على الديار تغربا أفبالتغرب كان طالع مولدي”
فلم تعد التصورات البصرية لعلاقة الصورة الشعرية بالتشكيلية قائمة على كيفية رؤية الشاعر لللوحة أو كيف يعبّر الفنان عن القصيدة بل كيف تراءى التناغم بينهما في الصورة وانعكاسها وكيف حقق هذا التناغم انتصارات فنية وجمالية، لنجد أكثر من تجربة ومدرسة ومنها الحروفية.
*صالح الهجر “إن المحبة منذ البدء لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق”
إذ تبدو التجربة الحروفية أكثر التجارب تعلّقا بالنص الشعري على مستويات مُختلفة لم تحتك بالمعنى الكامل للنص ولكنها ابتكرت منه حضورها فحقّقت معه روحها الجديدة في التعبير، خاصة وأن التأملات الوجودية في المعنى والتناغم مع الإيقاع التعبيري كان فيه الكثير من التجدّد والمحاكاة للواقع والوجود للتجلي الكوني في الفضاءات للأسلوب المندمج مع الإيقاع خطا ولونا وزخرفا كما في تماس الصورة الشعرية ودلالتها العميقة.
بسام كيرلس “طائر الفينيق”
إن الشعر والتشكيل حمل علاقة تماهت وتبلورت وتناقضت وانتصرت للإبداع التحديثي ففي الشعر العربي أثّر الخيال المتجلي في تجربة جبران خليل جبران حين ظهر بين الشعر والتشكيل توازن بصري قابل للتماهي والتبلور العاطفي والوجودي والتعبيري على إيقاع له ارتكازه الفلسفي ما خلق محاورة بين الشعر والتشكيل لامست الملاحم وخلّدت حضورها واستدرجت الفنان إلى أكثر من منفذ ورؤية وزاوية بحث وتعمق.
*وجيه نحلة
إن اللوحة التشكيلية يمكن أن تُصنف القصيدة الصامتة بصاخب استطاعت أن تكون حاملة لمعان عميقة ودلالات قابلة للتأويل والقراءة ولكنها لم تنف المدى الكاسر للفراغ في عمق تحمّل التأويل وهو ما مكّن التشكيل من خلق مجالات أوسع وفضاءات أكثر اتساعا استقبلت الشعر بأكثر من رؤية للتعبير والانسجام والابتكار.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply