لم تكن الفنون البصرية بمعزل عن الثقافة الأساسية بفنونها المختلفة وعن الإنسانية ولم تستثر ملامحها من فراغ في الوجود ولا سطحية في الفلسفة بل استدرجت كل ما شكّلته البشرية من أثر لتصنع لذاتها رؤى خاصة وبصريات وملامح وعلامات ومجازات جعلتها بدورها مصدرا للإلهام والخيال والتفكّر والانتصار لروح الابداع والجمال، ولعل هذا التمازج خلق حلقة من التفاعل والتوافق والتأمل كان من بينها التناغم البصري الذي تكوّن بين الموروث الأدبي واللغة التشكيلية، إذ أسّست لمسارات مختلفة بدأها المستشرقون الذين أثّر فيهم الأدب الشرقي وأثار لديهم فضولا وانسجاما انتشل صورتهم من عمق وصفها اللغوي كما في قصص ألف ليلة وليلة وشعر الخيام وقصص ابن المقفّع والمعري وغيرها من الكتب المتنوعة التي ترجمت بدورها عن مختلف ثقافات الشرق والتي اندمجت وانسجمت لتعيد تشكيل الصورة البصرية والمخيال العام للعلامات المرئية من خلال النص المقروء.
*جبران خليل جبران
فالشعر البصري والرواية والقصة بأساليبها الوصفية والمجازات المتناغمة مع الحالات الملوّنة والمتداخلة والمنسجمة أسّست لتناغم حسي وبصري خلق تماسا بينه وبين الفنانين والتشكيلين وهنا نشير إلى فترة ما بعد الحربين العالميتين حين ظهرت تلك العلاقة لتؤسّس لمفاهيم أدبية جديدة ورؤى حداثية في التعبير كان حضورها ظاهرا بشكل متبادل بين الأدب والفن بين بيكاسو ودالي وبودلير وريفري وساندرار وأبولينير حيث أن الشعراء بدورهم لم يستثنوا أنفسهم من الكتابة عن الفن التشكيلي ونقده والتنظير لمدارسه فالمنطق الشعري والأدبي الذي أسّس لما يعرف بما وراء المنطق اللفظي والمقروء ساعد على تأسيس ماورائيات الصورة والتعبير بها ليكون ذلك بداية لظهور علاقة التفاعل الكثيفة بين المنطوق والمقروء والمرسوم والمُعبر عنه بصريا بشكل معاصر وحديث.
*بسام كيرلس
فالعلاقة التي تحمل الثقافة على محمل الالهام والخيال لا يمكن لها أن تحيد عن دورها في ابتكار الجمال وصنع التواصل الإنساني به وهنا نشير إلى بعض التجارب ابصرية العربية المعاصرة التي استطاعت ان تكسر حواجز التعبيرية والرمزية وتؤسّس لذاتها مفاهيم لها منطلق أدبي ورأي ورؤية لكل اطلاع كان له دوره في إثراء الذائقة وتحمّل السرد بصريا والتعبير عن الواقع بمواقف مختلفة والابتعاد به أعمق وتجريد الصورة وتفكيك علاماتها.
*Carlo-Polidori
جبران المؤثر أديبا وفنانا
يبدو التماسك بين كل زوايا التعبير عند جبران متوازنا في مدى ذهابه أبعد بالتصورات الفنية فالمعروف أن جبران أديب وكاتب له حضوره العالمي، كما أنه تشكيلي برع في تحويل أفكاره المكتوبة إلى صور ولوحات واسكاتشات مختلفة وهو ما حوّله من أديب وفنان إلى ملهم بل وأيقونة من أيقونات التأثير البصري بالكلمة التي صاغها من حكمة التواصل الإنساني والتفاعل المحكم مع الطبيعة والكون في كل أثره الأدبي بنفسه الرومنطيقي والوجودي الذي فكّك التعبيرية في سلسلته النثرية واللونية وحكمة المحبة والحياة في تناقضات أرواحها المتمرّدة بين الدمعة والابتسامة وهو ما قاد عدّة فنانين تعبيريين ورمزيين الى تفكيك صور الواقع حسيا من خلال الاقتباس من تجربته الحسية الأدبية والشعرية والفنية وهنا نرى ابتكارات التجربة التي قدّمها بسام كيرلس حيث حملت رابطا روحيا وفنيا وحسيا تماثل في كثافة الفلسفة الروحية والتوافق الوجودي بين فكرتي البناء والهدم وعلاقة المادة بالروح والحواس والخلق والتكوين والفناء والبعث والحياة وخلود المحبة فهو ما خلق لدى بسام علاقة مع الطبيعة مع الخامة مع الفكرة ومع التوجه الداخلي نحوها بعمق ساذج وبحكمة موظّفة لتراتيل الوجود الحقيقي للإنسانية التي تثير ألغاز العلاقة بين الفرد والكون والتجلي بين الفعل والعطاء الذي بدا في الرمزية التي فعلها جبران في الأثر الأدبي والتي أجاد ابتكارها كيرلس في التوظيفات الحسية والبصرية ولذلك اختار كيرلس طائر الفينيق المصلوب كدلالة بصرية وعلامة رمزية لها مكنونها اللاهوتي الفاصل بين الخلق والخليقة وبين المحبة ودورها في التبشير بالحياة وكذلك وظّف الوجوه والملامح لكشف حالات التفاعل مع الطبيعة بمواسمها العاصفة والماطرة والمتهاطلة بغزارة بين من خلال الخامة واللون والكثافات المتداخلة.
*Byron Glee Newton (1893-1973) American
فاعتماد الرسوم التوضيحية والتعبيرية والانطباعية التي حاولت خلق جدليات مع الواقع تجاوزته بفرض محاكاة احترفت تفكيك الجوانب الإنسانية والفردية في الانسان وهو المنطق الذي حاكى به سمير الصفدي رؤيته للجانب الفني في أدب جبران حيث بدأ مشروعه الجديد الذي قال إنه تناول بصري لرواية النبي التي حملت فصولا عميقة تجادلت فيها الكلمة مع الفرشاة والقماش والخامات لتكوّن رؤية تعبيرية معاصرة التوافقات روحانية حسية لها صراعاتها الداخلية التي تعبّر عن الانسان في خضم معركته مع البقاء ومع كل ما يعايشه من تصعيد حسي وروحي وفراغ داخلي منزوع الإحساس بالأمان بشكل صاخب ذهنيا وبصريا، فهو من خلال تجربته التعبيرية سيقدم رؤية جديدة من منظور معاصر سيعكس حكمة المحبة ورسالة العطاء التي يسردها “نبي” جبران.
*اعطني الناي وغني: أسامة دياب لوحة قيد الاكتمال
إن المدرسة الأدبية التي أسّسها جبران هي مسار له متفرّعاته البصرية التي يسردها أيضا التشكيلي أسامة دياب بدقة وبجودة وبحث من منطلق روحاني حسي وشاعري حكيم له رؤى تعالج ماهية الطبيعة وأساس التوافق الإنساني والعلاقة الحسية الذهنية التي تخلقها تلك التوازنات الثقيلة والخفيفة بين الانسان والطبيعة في ظل رؤى تعالج ماهية الخلق وتحاكي الوجود بالموجود بالواقع المحسوس حتى ترتقي رغم ذلك الواقع إلى مراتب الجمال بصفاء لوني رغم بروده ينتشل حرارة حضوره من حركته المفروضة في عبق الكلمات الصاعدة نحو رقي أرقى في انسانيته وبالتالي خلق موازنة بين الألم والأمل والمعاناة والتضحية.
*صالح الهجر: إن المحبة منذ البدء لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق
في توجّه التشكيلي الحروفي صالح الهجر استعان بكثافة الحرف وجمالية تطويعه الهندسي واندماجه مع الزخرف واللون والمنافذ البصرية لدفع التداخلات الحسية في المعنى الفلسفي بصريا ليحمله نحو فكرة المحبة والعطاء التي أسّس تفاصيلها إنسانيا وجعل لها مبدأ في كتاباته فكوّن بها رؤية مختلفة تبناها في اللوحة وامتلأت بالفعل والحيوية.
مميزة
*منى عز الدين
ورغم أن جبران أثّر على عدة تجاب بصرية تعبيرية معاصرة إلا أن الأدب والأثر الجمالي للموروث المحكي ساهم في صياغة خيالات حسية وتشكيلية كما في تجربة التشكيلية الكويتية ثريا البقصمي أو تجربة التشكيلي اليمني حكيم العاقل الذي عكس تأثره بالحكاية الشعبية وملامح الهوية والبيئة والثقافة اليمنية وتجربة منى عز الدين التي أثارت الرمزية المنطوقة للحيوان في كتب ابن المقفّع وبالخصوص كليلة ودمنة فصاغت رؤيتها من خلال عالم الحيوان الذي استنطقته بصريا واستدرجته نحو عوالم واقعها فكوّنت لها خصوصيات حسية وفكرية وتبنت من خلالها موقفا ورؤية للواقع مبنية على التناقضات الباحثة عن بساطتها في عالم الحكمة القصة والعبرة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
Leave a Reply