“أم عزيز” هي الأيقونة التي اختارها التشكيليون صالح الهجر، معتز العمري، موفق السيد، عفيف الساير وأسامة دياب لتكون الملهمة لأعمالهم الجديدة التي يقدمونها بشكل يتوافق في الفكرة والعلامة ويختلف في الأسلوب والتعبير عنها.
حيث أن هذه الأيقونة التي يحفظ لها متحف فرحات ذاكرة مختلفة من الصور الفوتوغرافية تحوّلت من مجرّد شخصية إلى رمزية إنسانية حملت أكثر من بعد وقضية بين الانتماء والحضور في “امرأة لا أقلّ ولا أكثر” جمعت من ذاتها اكتمالا بدا في الانسان المحبة والتضحية الحياة في الحب والحرب بين الثبات والتهجير والشتات، فهي الأم والأرض وهي الوطن والوطنية وتناقضات التشبّث والتخلي.
هي كل تكاملت في انتظارات حقيقية للإنسانية لدى كل من عرف قصة أم عزيز ولامس حياتها واقعها، وما دفع بها للانتماء وكذلك ما دفع بها للتهجير إنها حالة خاصة في مستواها الفردي وعامة في تناولها الحسي والفني والواقعي والتعبيري المعاش الذي يعبّر عن أوطان مسلوبة، فهي وكما يقول الفنان التشكيلي أسامة دياب “أيقونة الحق الصبر ضد القهر المستشري في بلاد المماليك والمزارع”.
“أم عزيز” الحكاية تشبه قصة الكثيرات اللاتي صنع لهن الواقع مجدا وتحمّل معهن موقف الحضور الخالد، هي طفلة فلسطينية هُجّر أهلها سنة 1948 لتدرك فيما بعد أنها من ضحايا ما يسمى تاريخيا النكبة فكان التهجير نقطة تحوّلها الأولى إلى لبنان لتصبح حسب اللوائح الدولية لاجئة وتتحوّل صفتها إلى مجرد انتماء لا منتم بين الوجود والتهميش، عايشت أحداث لبنان بين الواقع والحرب والذاكرة التي باتت تحرسها، فقد كبرت فيها فلسطين لتصبح الفكرة التي تربّت عليها وانتمت إليها بالغياب الحاضر، وليصبح انتظارها غزلا لقصص “البلاد” والعودة ودفاعا عن البقاء الأنقى للهوية المتبقية في الذاكرة هذه الذاكرة التي جعلتها تصبر أكثر لتعبر عن قضيّتها أبناء شعبها وأبنائها الأربعة الذين تعرضوا للاختطاف في الاجتياح الإسرائيلي والعدوان على لبنان سنة 1982.
فهي لم تفقد الأمل في عودتهم كما لم تفقد الأمل في عودتها للوطن حملت صور أبنائها وصنعت لنفسها قصص الأمل فكانت ترويها في كل حدث وتفصيل تحاكي بها قصص التضحية والأمل الإصرار والعناد الاستمرار والتفاعل التي لم يخفت بريقها سنة بعد سنة ذلك البريق حمل التأملات البصرية إلى المصورين الفوتوغرافيين الذين كانت لديهم رؤية أيقونية لأم عزيز ونقلوا تحرّكاتها وصوتها وحضورها وثباتها على فكرة واحد العودة واستعادة أبنائها.
وهو الدافع ذاته من التأمل حمله الفنانون التشكيليون لصياغة حكاية أم عزيز بتعبيرية لامست اللون وسردته بصريا بكثافة توليفية استدرجت المفاهيم أبعد في التعبير عن الصورة وما ورائياتها التي تداخل فيها التأمل الذهني مع التأمل البصري.
ففي عمل الفنان التشكيلي موفق السيد يبدو التماهي بين الأرض والذاكرة والأفق والامتداد مزاجا حيويا لأم عزيز التي استطاعت أن تنبش ذاكرة للمستقبل وتحوّل الترقب الماضي إلى امتداد لذاتها الإنسانية، فلا يبدو العمل نقلا للصورة بقدر ما هو تفاعل وتقمّص وبحث وجدل يروّض الفراغ في فراغ اللامكان، حيث يبحث السيد عن الأمكنة ليتحاور معها بذاكرته ولتمتد معه من العام إلى الذاتي في ذاكرته الشخصية بتلك المساحات والكتل من النور، وهي إحالة على ذلك حيث استطاعت الأيقونة أن تكون علامة ليقظة ولتأمل خاص لذاكرة قادرة على أن تُنبت وتزهر بتوافقات مع الطبيعة وتقنيات عالية في برمجة الحضورومحاكاة اللون في سردياته البصرية بين التوافق مع الضوء والامتداد مع المساحات الداكنة التي تعطي العمل فضاء للترقب وتتيح بالنور منافذ للأمل.
*موفق السيد
عندما ظهرت الألوان هادئة في الترتيب والصورة التي كانت ممتدة أبعد في توظيفاتها ما خلق حوارا بين المرأة الجسد والأرض التي استطاعت أن تكونها وتعبر عبرها إليها، وتشرق معها وتكونها.
الفنان التشكيلي والحروفي صالح الهجر حاول أن يبتكر هندسة تفاعلية بين الفكرة والشخصية ويعبّر بالحرف عنها حيث اصطنع من الذاكرة حضورا ومن الحضور معنى في فضاءات اللوحة كوّنت فيه “أم عزيز” اكتمالا هندسيا لم يكن مسقطا بقدر ما كان يتشارك الفعل التعبيري المتصاعد نحو أفق الإنسانية من خلال التراث البصري الحروفي حيث تداخلت الحروف وامتدت في الحجم والمساحة والشكل الهندسي والتوازنات والانحناءات التي حاول الهجر فيها الإشارة إلى أن كل تلك الغوغاء التي عبّرت عنها الحروف المتداخلة تنتفي وتتلاشى في المعنى أمام حضور تلك الأيقونة الصامتة المنتظرة.
صالح الهجر
فهي داخل العمل طوّعت اللغة بصمتها واستنطقت الذاكرة بالعلامة والتجلي المتكامل مع الفضاء العام الذي اختاره صالح الهجر ليوظّف الشكل تعبيريا والهندسة تصعيديا لامتداد تلك الصورة العامة إنسانيا وبصريا فالألوان الباردة والتداخل الانعكاسي الشفاف عبّر عن منطلقات زمنية وأحداث متداخلة وعمق واضح تسرّب أبعد في الصورة ومعها.
أما التجربة التي قدّمها معتز العمري فلم تبتعد عن الأسلوب الذي يميّزه وهو الطباعة على الشاشة الحريرية والتوظيف التعبيري والتجريدي في تداخلات حضور المرأة في عالم التحدي والموقف الإنساني والعناد الذي تحوّل بالواقع أبعد في تفاصيله.
*معتز العمري
فتلك الأيقونة التي بدت مُتعلقّة بالرموز حملها العمري إلى عوالمه وحاكى بها الفعل الاستمراري في القضية الفلسطينية والقضايا الإنسانية التي تحتاج الأمل الذي تربيه “أم عزيز” لتواصل تشبثها بالحقيقة الثابتة وهي الأبناء واسترجاع الحضور، فتقنية الطباعة حمّلها العمري الألوان وحاكى بها الزخرف الملون وجمّعها بحرفية وهندسة لتحمل تناقضات وتأملات وتجليات لم يفرغها الزمن من قيمتها وقوّتها وحكمتها في الانتظار، فلم يكن الفراغ في التجلي إلا امتلاء خلق العمق فبين الحرف والهندسة واللون والقماش تناغمت الصورة وتعمّقت الدلالة لتثير فكرة الاستمرار والانتماء والهوية.
أما عن رؤية التشكيلي أسامة دياب فقد حمل التعبيرية بتواترها المباشر حسيا وذهنيا من خلال العلامة والتوحد المعنوي بينها وبين القضايا الإنسانية العامة فقد تحمّل بهذه الأيقونة الاستمرارية التعبيرية التي غاص بها في هواجس التعبير والانتظار والألم والأمل النافذ بين ثنايا الترقب وكأنه يتقمّص معها ذلك الانتظار يحاكي من خلالها قصص متشابهة وانتظارات مستمرة وتشابه يتناقض في الإحساس بين الأعمق والأكثر عمقا في تلك التراكمات اللونية والتوافقات الداكنة التي تستدرج الفراغ وتسرده بالامتلاء الشعوري بالفقد الأكبر للأوطان بالشتات الذي يبعثر الواقع ولا يلغي الذاكرة الثابتة على حركة التأمل والانتماء مهما كان الخراب طاغيا على الأمكنة التي
تتلاشى
*أسامة دياب
تحمل تلك الأطياف التي تتسرّب في اللوحة ثباتا على الفكرة رغم مرور الوقت ورغم صعوبة الواقع ورغم تشابه الأحداث في شتاتها فهي حقيقية ثابتة رغم شفافيتها وابتعادها عن المكان إلا أن علوّها يحمل الكثير من السمو الذي زاد أم عزيز ظهورا وثباتا وأحقية وحضورا حقيقيا.
في التصورات البصرية التي يقدّمها التشكيلي عفيف الساير كان لحضور أم عزيز خصوصية حاكت القصة واقعيا وتحمّلت مجازها انطباعيا حيث صاغها بعمق أسلوبي توحّد بين العاطفة ومداها المؤثّر بين الصورة الأصلية والصورة الفنية انعكست في تماثل تحمّل الأسئلة وتفاعل مع أجوبتها في الانتظار اللامجدي والترقّب المعلوم الثابت لحقّ وحقيقة بين زمن ولّى وآخر آت تحاملت الرؤى بين السرمدية الحسية والواقع التعبيري في اختراقات زرقاء للون هادئ يحاول أن يتغلب على صخب صامت وغليان داخلي وثورة تتمرّد من أجل القضية الثابتة على مبادئها الإنسانية الواضحة والمعترف بها، حاول الساير أن يطغي شعور الأم ويبالغ في الإضاءة عليها ويتقمّصها مع شخوصه التائهة بحثا عن بوصلتها التي تبدأ من أم عزيز وتنتهي عندها كإشارة للأرض والوطن.
*عفيف الساير
إن أم عزيز هي الذاكرة التي تنبش داخل عمق الذكريات وتبحث عن منافذ الوصول في كل رمزية تشير إلى البقاء أو الشهادة بين شروخ الزمن ثابتة على أرضها مستمرة في نموها مفتوحة أبوابها على المقاومة وشامخة جذورها في أرضها مهما تهجّرت أصولها حقيقية.
رغم توحّد الايقونة إلا أن كل فنان نجح في سرد ما بدا له من خلالها فنيا وإنسانيا حيث تناغمت كل لوحة وتشكّلت لتعيد لهذا الإنسانية حضورها الحقيقي وتطلع المتلقي على الكم الذي يتحمّله الفن وأن الالتزام الجمالي له محفّزاته للتجديد الذي يجعل منه اتساعا لقيمها بعلاماتها الثابتة والباقية التي تحفّزه للتعبير عن الحق والانتصار لذاته ولها.
*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من اجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection
Article by Bochra Ben Fatima